يعقوب بن كلس
تقدم الشيخ إلى الباب ودقه بحلقة من الحديد في وسطه فرد عليه البواب وفتح خوخه الباب وأخرج رأسه منها وهو يقول: «من هذا؟»
فقال الخاناتي: «ضيف يسأل عن المعلم يعقوب.»
فأجال البواب نظره في الطريق فرأى لمياء واقفة بثوب الرجال فأعجبه هندامها فقال: «تفضل يا سيدي، إن المعلم في المنزل.» قال ذلك وفتح الخوخة على مداها وتنحى حتى دخلت لمياء بعد أن أشارت إلى الخاناتي إشارة الوداع وابتسمت. فمضى الخاناتي معجبًا بلطف ذلك النزيل الكريم.
أما لمياء فأشار إليها البواب أن تقعد على مقعد في مندرة عند الباب وذهب لينادي يعقوب. وبعد قليل سمعت صوت يعقوب يقول لبوابه: «أين الضيف؟»
فأجابه: «في المندرة.»
ثم أقبل يعقوب على المندرة فوقفت له لمياء فحياها بلطف وقال: «مرحبا بالضيف الكريم، تفضل اجلس.» وجلس على كرسي بين يديها وهو ينظر إلى نظافة ثوبها وهي تنظر إلى سحنته وتتبين ملامحه فرأته على أبواب الكهولة وقد لبس الجبة والعمامة الصغيرة وأرخى سالفيه أمام أذنيه.
ويظهر من شكل أنفه وحاجبيه أنه يهودي ولكن الشرر يكاد يتطاير من عينيه لفرط ذكائه وحدة ذهنه.
فأول شيء تَبَادَرَ إلى ذهنها أن تطلب الخلوة به لكنه سبقها إلى الكلام: «من أين الضيف؟»
قالت من بلدة بعيدة: «هل تأذن بخلوة؟»
قال: «نحن في خلوة.»
قالت: «بل أريد خلوة أبعد عن أبصار الناس ومسامعهم.»
فعرف من لحن صوتها أنها من بلاد المغرب وحدثته نفسه لأول وهلة أن يكون لمجيء هذا الصقلبي علاقة بكتابه إلى المعز. وكان ينتظر ورود الجواب عليه كل يوم. فلما طلبت الخلوة نهض ومشى أمامها في حديقة كبيرة إلى مصطبة صعد عليها إلى بيت دخلا غرفة منفردة منه وأوصى يعقوب أن لا يقرب أحد من بابه.
وفى تلك الغرفة بساط من السجاد ومساند ومقاعد. فأشار يعقوب إلى ضيفه أن يقعد على الوسادة. وجلس هو بين يديه وعيناه شائعتان؛ ليرى ما وراء هذه الخلوة، فقالت لمياء: «إني رسول إليك من الإمام المعز لدين الله.»
فلما سمع يعقوب اسم الخلفية تأدب في مقعده مبالغة في الاحترام وقال: «مرحبًا بك يا سيدي … كيف أمير المؤمنين كيف صحته.»
قالت: «إن مولاي أمير المؤمنين بعثني إليك لأحمل شكره لك ورضاءه من رسالتك التي أَنْفَذْتَها إليه.»
قال: «أرجو أن تكون قد أتت بفائدة … وأنا في قلق؛ لأن رسولي لم يعد بعد.»
فقالت: «ولن يعود؛ لأنه قتل.»
فأجفل وقال: «وكيف وصلت الرسالة إلى الخليفة؟»
قالت: «وصلت بالاتفاق الغريب … أنا أوصلتها إلى أمير المؤمنين وهو على وشك الوقوع في الفخ (وتنهدت؛ لأنها تذكرت مقتل والدها) ولكن وصول الرسالة نجاه وحاشيته من الموت.»
فأبرقت أسرة يعقوب من نجاح مهمته؛ لما يتوقعه من الارتقاء على أيدي الفاطميين، وقال: «وكيف حدث ذلك. ألا تقص علي الخبر؟ قُلْ بالله، قل.»
قالت: «أحب قبل كل شيء أن أكاشفك بسر آخر يخصني.»
قال: «تفضل يا سيدي.»
قالت: «أنت تخاطب فتاة لا رجلًا.»
قال: «أصحيح ذلك؟ قد توسمت في هذا الصوت لطف النساء لكنني رأيت في هاتين العينين قوة الرجال … أما وقد أطلعتني على هذا السر فهل تتممين جميلك وتفصحين لي عن حديث رسولي وكيف وصلت الرسالة إليك؟»
قالت: «لذلك حديثٌ طويلٌ سأقصه عليك باختصار، وفيه أشياء كثيرة لا تهمك ولكنني سأقولُها لك وثوقًا بذمتك واعتمادًا على غيرتك وشرفك؛ لأستعين بك في بعض الأُمُور التي تهمني شخصيًّا.»
قال: «قولي يا سيدتي وثقي أني خزانة أسرار وأني أبذل كل ما في وسعي للأخذ بيدك في كل ما تريدينه.»
فأخذت تقص عليه خبرها مع سالم مختصرًا إلى أن غلب أبوها على بلده وصار في حوزة المعز وكيف خطبها لابن جوهر وما ظهر من كيد أبي حامد حتى فشل على يده بوصول الرسالة. وكيف قتل رسوله وقتلت هي قاتله.
وأنها قادمة لاستطلاع الأحوال وللانتقام لنفسها إلى آخر الحديث — وهو مصغ كل الإصغاء — فلما فرغت من حديثها قال لها: «أنت إذن لمياء المسكينة.»
قالت: «نعم أنا لمياء ولكنني لست مسكينة؛ لأني سأنتقم لنفسي من ذلك الخائن الغادر.» قالت ذلك وحرقت أسنانها وبان الغضب في عينيها وأدرك يعقوب أنها فتاة ليست كسائر الفتيات فقال لها: «كوني على ثقة أني أبذل وسعى في سبيل رضاك. إن أمة في نسائها فتاة مثلك أحر بها أن يتسع سلطانها، وستقيمين هنا وتعرفين كل شيء في مدة قصيرة.»
قالت: «بلغني أن في هذا البلد رجلًا من الشيعة اسمه مسلم بن عبيد الله، هل تعرفه؟»
قال: «إنه من أعز أصدقائي وهو الذي حبب إلي الأخذ بناصر الشيعة، مع أني إسرائيلي لكني صرت أعتقد أن الحق بجانب الإمام علي.»
فهزت رأسها وقالت: «الحق يعلو ولا يعلى عليه وسوف يظهر أصحاب الحق أبناء بنت الرسول.» قالت ذلك ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافةً من الحرير استخرجت منها رقًّا ملفوفًا وقدمتْه إليه وقالت: «هذا كتابٌ من أمير المؤمنين إليك.» ثم استخرجتْ حجرًا من الألماس كبير الحجم كان قد وقع للمعز في بعض غزواته وهو يساوي بضعة آلاف دينار، وقالت: «وهذا هدية من مولاي الخليفة إليك.»
من المعز لدين الله أمير المؤمنين إلى يعقوب بن كلس
إن إخلاصك الصحيح قد تأكد لنا من رسالتك التي وصلتْنا في إبان الحاجة إليها، فوجب علينا شكرُك، وقد بعثنا إليك هذا الشكر شفاهًا مع رسولنا حامل هذا الكتاب، وسنذكر لك هذه الأريحية والغيرة الحقيقية في وقت يكون لك منه نفعٌ صحيح. وإذا زدتَنا مِن عنايتك وصِدْق إخلاصك تضاعفتْ يدك لدينا والله يتولاك بنعمته.