مسلم بن عبيد الله الشيعي
فلما أتم القراءة قَبَّلَ الكتاب ووضعه على رأسه ثم أعاده إلى اللفافة وخبأه في جيبه، فنهضت لمياء فأحس يعقوب أنها تريد الذهاب للتعرف بمسلم بن عبيد الله الشيعي فنهض ومشى بين يديها فقالت: «ألعل منزل الشريف بعيد من هنا؟»
قال: «هو جارنا لا نحتاج في زيارته إلا إلى خطوات قليلة بعد خروجنا من هذا الزقاق.» فاغتنمت وجودها معه في الطريق وقالت: «لم أحادثك بشأن سالم بعد.»
فقال: «لا حاجة إلى زيادة الإيضاح يا سيدتي كوني مطمئنة.»
ولم يسيرا طويلا حتى وصلا إلى بيت مسلم المذكور فتقدم يعقوب فطرق الباب وخاطب البواب. فلما عرفه فتح له ورحب به. ودخلت لمياء معه ومشى في الحديقة أمامها حتى بلغ خبر قدومه إلى مسلم فناداه من الداخل «ادخل يا معلم.»
فأسرع يعقوب إسراع المحتفي بمخاطبه وقال: «لست وحدي يا سيدي إن معي ضيفًا تُسر بمشاهدته.»
فقال: «تفضل ومن معك.»
وكانت لمياء قد صارت على مقربة من باب الغرفة التي فيها مسلم، فحالَما وقع بصره عليها تزحزح من مكانه كأنه يهم بالنهوض فأسرع يعقوب إليه وأقعده وهو يقول: «لا تقم يا سيدي.»
فقال: «أهلًا وسهلًا بالقادم … من معك؟»
قال: «رسول ابن عمك صاحب القيروان.»
فقال: «من أمير المؤمنين المعز لدين الله؟» قال ذلك ووقف وهو يقول: «فلماذا منعتني عن الوقوف؟ إن كنت لا أقف لرسول صاحب الحق فلِمَن أقف؟» وترقرقت الدموع في عينيه فرحًا.
فأكبت لمياء على يده فقبلتها وهي تقول: «العفو يا سيدي هذا إكرام لا أستحقه.»
فقال: «بل يجب عليَّ الوقوف إكرامًا لابن عمنا صاحب القيروان. طالما تمنيت أن أحظى بهذه اللقيا … كيف فارقت أمير المؤمنين؟» وقعد وهو يُشير إليها بالجلوس فجلست متأدبةً وقالت: «فارقته في خير وسلامة … إن قلبي يطفح سرورًا بهذه المقابلة في هذا البلد السعيد.»
وأشار مسلم إلى يعقوب فقعد وهو يقول: «وأزيدك علمًا يا سيدي أن هذا الرسول فتاة تتفانى في نصرة أمير المؤمنين. وقد كانت السبب في حفظ حياته من كيد الكائدين.»
فقال: «وكيف ذلك يا يعقوب؟»
قال: «ألا تذكر يا سيدي ما قصصته عليك عن المكيدة التي كادها بعض الخونة للفتك بابن عمك — حفظه الله؟»
قال: «بلى وعلمت أنك بعثت رسولًا ينذره بذلك.»
قال: «نعم ولكن الرسول قُتل قبل وصوله إلى القيروان فأُتيح لهذه الباسلة أن تتناول الرسالة وتوصلها إلى صاحبها. ولو تأخرتْ لحظة لنفذت حيلة أولئك الكائدين.» وقص عليه الخبر باختصار.
فلما علم بما تكنه جوارح لمياء من الغيرة على الشيعة وعن غرضها من القدوم إلى مصر قال: «بارك الله فيك يا بنية … كيف فارقت أمير المؤمنين؟»
فطمأنتْه عنه وأخبرته بما أوتيه من النصر وما ترجوه من تغلبه وفوزه. فأبرقت أَسِرَّتُهُ، وقال: «الحمد لله الذي نصر قومه ونتوسل إليه تعالى أن يتم فضله علينا وينقذنا من القوم الظالمين … ألم يعزم الإمام على القدوم إلينا؟»
قالت: «إنه فاعل بإذن الله. وإنما جئت لاستطلع الأحوال وأرى حال الشيعة في هذه البلاد.»
فتنهد تنهدًا عميقًا وقال: «إن شيعتنا في ضنك شديد. إن هؤلاء الظالمين يسومونهم مر العذاب من الإهانة والضرب والحبس بسبب وبلا سبب …»
قالت: «قد تفطر قلبي لِما شاهدته من ذلك في هذا الصباح، وأنا قادمة إلى منزل المعلم يعقوب … رأيت شيخين جالسين بباب المسجد يصيحان «معاوية خالي.» يقولان ذلك بكل وقاحة.»
فقال: «لم تري شيئًا بعد يا بنية … إن شيعتنا مغلوبون على أمرهم يذوقون العذاب ألوانًا من الحبس والقتل.»
فقالت: «الحبس والقتل! ولماذا؟»
قال: «بغير سبب … إنهم يسومون شيعتنا ذلك؛ لأنها تجل أبناء الرسول … لو قصصت عليك بعض الخبر لبكيت على حالنا.»
قالت: «أحب أن أعرف شيئًا أنقله إلى مولاي أمير المؤمنين؛ لعله يعجل خطواته في إنقاذهم.»
قال: «أذكر لك مثالا صغيرًا من مظالمهم. كان في الفسطاط منذ سنوات رجل من الشيعة اسمه ابن أبي الليث الملطي بلغ خبره إلى صاحب مصر، فبعث في طلبه، فحملوه إليه فأمر بضربه، فضربوه مائتي سوط ووضعوا في عنقه غلًّا ثقيلًا وحبسوه وجعلوا يبصقون في وجهه وهو في السجن حتى مات — رحمه الله.» قال ذلك وغص بريقه فلم تتمالك لمياء عن البكاء.