الحيرة
كانت لمياء تسمع ذلك القول وبدنها يقشعر وعيناها تذرفان الدموع ومسلم يغص بريقه من فرط التأثر ويعقوب يُظهر التألم مما يسمعه، ثم تصدت للكلام وقد أبرقت عيناها من التفكير وقالت: «لا تحزن يا سيدي قد دنا الوقت لإنقاذ هذه الشيعة المظلومة … إن الله مع الصابرين.»
فتنهد الشريف مسلم وقال: «لقد طال صبرُنا يا بنية ولا نظننا نصل إلى ثماره — كأنه قد كُتب علينا الاضطهادُ وكتب على الخلافة أن تبقى في غير أهلها لحكمة لا نفهمها!»
فقالت لمياء: «أليست الخلافة الآن في بيت الرسول بالقيروان، إنها ستبقى فيهم مدى الزمان … قد كتب لهم النصر ولا يمضي كثيرٌ حتى ترى أعلامَهم تخفق على سائر البلدان — بإذن الله.»
وكانت لمياءُ تتكلم ومُحَيَّاها يشرق سرورًا كأنها تقول ما تقوله عن ثقة.
فأعجب الشريف بما بدا من حماستها، وقال: «إن وجود مثلك بين أنصارنا يبشرني بفوز عظيم.»
قالت: أنا مسكينة حقيرة، إنما الأنصار هم القواد والأمراء، وفيهم جوهر الصقلي الذي دوخ المغرب بسيف العبيديين … إن ذلك الفتح سيكون على يده وأيدي الأمراء من كتامة وصنهاجة وغيرهم من البربر الذين باعوا أنفسهم في سبيل الحق، ثم اعترضت مجاري أفكارها صورة أبي حامد وسالم وما كان من كيدهما حتى قتل أبوها فانقبضت نفسها وسكتت وهي مطرقة تفكر في سالم وأنها تحب أن تطلع على حقيقة حاله وتود أن تسمع خيانته بأذنها وعلمت أنه لا يُستحسن ذكره بين يدي الشريف فرأتْ أن تستأذن في الانصراف حتى تخلو بيعقوب وتطلب منه ذلك، فتزحزحت وأظهرت أنها تحب الذهاب فاستوقفها الشريف قائلًا: «إلى أين يا ابنتي؟ إنك ستقيمين عندنا بين أهلنا على الرحب والسعة.»
فقطعت كلامه قائلة: «كان يجدر بي ذلك، وهو حظ كبير لي ولكنني — لأسباب قهرية — لا أقدر على الإقامة هنا. وأتوسل إليك بجدك سبط الرسول أن تكتم أمري عن كل إنسان حتى عن أهلك فهل تعدني بذلك؟»
قال: «نعم كوني مطمئنة. والآن أين ستذهبين؟»
قالت: «إني سائرة مع المعلم يعقوب، وسأذهب إلى الخان أو غيره كما يتفق ولا غنًى عنك في كل حال، فإذا بدت لنا حاجة أسرعنا إليك. فادعُ لنا الآن.»
فقال: «بحراسة المولى … ومهما يخطر لك من أمر فإنك تجدينني ملبيًا مطيعًا، ولا حاجة بي أن أوصيك بالتكتم؛ لأني رأيت من حزمك وتعقلك ما يضمن ذلك.»
ثم قبلت لمياء يده وخرجت، وخرج أيضًا يعقوب. ولما صارا خارجًا قال يعقوب: «إلى أين يا لمياء الآن؟»
قالت: «قد استأنست بك يا سيدي ولعل السبب في ذلك أنك مطلع على بعض أمري من قبل أن نتقابل» وتنهدت وسكتت.