يعقوب وكافور
فلحظ يعقوبُ أنها تعني خبرها مع سالم وكان يعقوب قد أخلص النية للمياء؛ لأنها وقعتْ من نفسه موقعًا عظيمًا وأعجِب بما رآه من صدق غيرتها ومروءتها وهو شريكها في غرضها السياسي؛ أي أنه يرى إبدال الدولة الإخشيدية بالفاطمية ليس حبًّا بالشيعة أو انتصارًا للحق لكنه كان ذا مقام عند كافور وكان يتوقع انقلاب الأحوال ولا سيما بعد مرض كافور، وقد أسر إليه الطبيب أن كافورًا سيموت قريبًا، وهو يعلم تغير قلوب الإخشيدية واضطراب أحوالهم، فرأى أن يصادق الفاطميين فيمسك الحبل من الطرفين. ونظرًا لثروته ووجاهته كان يخاف مطامع الإخشيديين وهو يرى قُرب زوال دولتهم من ضعفهم. فلم ير بأسًا أن يكون وسيلةً لنقل هذا الوادي إلى دولة جديدة فتية فإذا جرى ذلك على يده أتته المنافع من وجوه كثيرة.
وعدوه اللدود في ذلك الحين ابن الفرات الوزير، وكان يعقوب يخافه، على الخصوص إذا مات كافور؛ لأنه كان يحسده على منزلته عند كافور وينافسه على النفوذ. أما كافور وهو أمير مصر فكان يقرب يعقوب ويكرمه وقد جعله موضع ثقته. فلما أشارت لمياء إلى أمر سالم ورغبتها في استطلاع حقيقته رأى أن يسهل عليها ذلك وأن يُطلعها على الأحوال من حيث السياسة وأحزابها فقال: «أظنك تعنين أمر ذلك الخائن.»
وعلمت أنه يعني سالمًا فأجفلت ولم تطق أن تسمع تلقيبه بهذا اللقب مع أنها حكمت عليه بالخيانة من تلقاء نفسها، لكن ما رسخ في قلبها من حبه لا يزال له صدًى في خاطرها ريثما تتحقق الأمر فقالت: «اسمح لي يا سيدي أن أعترض على ما ذكرته عن سالم؛ فإنه يشق علي أن أسمعه وإن كان صحيحًا. وزد على ذلك أني لم أتحققه بعد.»
فقال: «أما أنا فقد تحققته كما ذكرت في كتابي إلى المعز لدين الله.»
قالت: «أليس من سبيل إلى تحقيق ذلك بنفسي؟»
وكانا قد خرجا من الزقاق واقتربا من منزله وسمعا المؤذن في جامع عمرو يؤذن صلاة الظهر. فقال يعقوب: «هذا وقت الغداء فلندخل إلى منزلنا نتغدى ثم ننظر في هذا الأمر.»
دخل منزله وهي في أثره فأمر غلامه أن يهيئ المائدة في المندرة ولم يحضر معها أحد من أهل يعقوب — ذلك ما أرادته لمياء — وبعد الغداء جلسا وكلٌّ منهما يفكر في أمره ويعقوب يدبر وسيلة لإجابة طلبها. وهما في ذلك طرق الباب وأتى الخادم يقول: «الطبيب شالوم بالباب.»
فلما سمع اسمه أبرقت أسرته كأنه كان في ضيق وأفرج عنه وقال للخادم: «أدخله إلى ردهة الاستقبال ريثما آتي.»
وبعد خروج الخادم قال يعقوب للمياء: «تعبت وأنا أفكر في إجابة طلبك بحيث أريك خيانة ذلك الرجل فأتى هذا الطبيب ففتح باب الفرج.»
قالت: «من هو؟»
قال: «هو طبيب الأمير كافور يتردد عليه كثيرًا، ولا سيما في هذه الأيام بسبب انحراف صحته. ولكافور ثقةٌ في علمه وطبه وكانا صديقين قبل أن صار هذا العبد أميرًا.»
قالت: «أي عبد تعني؟»
قال: «أعني كافورًا، ألا تعلمين أنه عبد! فلا بد إذن من أن أقص عليك خبره ليتيسر لك تفهم أحواله. اعلمي يا بنية أن كافورًا هذا كان في شبابه عبدًا لبعض أهل مصر ثم اشتراه محمد بن طغج الإخشيد مؤسس هذه الدولة هنا منذ بضع وأربعين سنة، فخدم عنده وترقَّى في خدمته حتى صار أتابك ولديه؛ أي مربيًا لهما. وصار يعرف بالأستاذ كافور. وتمكنت قدمُ الإخشيد بمصر وصار أميرًا مستقلًّا تحت رعاية الدولة العباسية كما هي حالنا الآن وتقدم كافور معه. وتوفي محمد الإخشيد سنة ٣٣٤ﻫ فخلفه ابنه الأكبر أنوجور ومعناه بالعربي (محمود) فزاد نفوذ كافور في الدولة؛ لأنه كان مربيًا لأنوجور فصار وزيرًا له فقام بتدبير دولته أحسن قيام. ولما توفي أنوجور سنة ٣٤٩ تولى بعده أخوه علي بن الإخشيد فاستمر كافور على وزارته أو نيابته حتى توفي منذ سنتين (٣٥٥) فلم ير بين الإخشيديين من يليق بالحكم.»
ثم خفض صوته وقال: ولعله طمع بالاستقلال، فاحتال في إظهار خلعة قال إنها جاءتْه من العراق، وهي شارة الولاية عندهم يرسلها الخليفة العباسي لكل والٍ جديد فيلبسها باحتفال شائق. وزعم أنه لقب بأبي المسك فاستبد بأُمُور الدولة واستوزر رجلًا شديدًا اسمه أبو الفضل جعفر بن الفرات هو وزيره الآن، ولولا ابن الفرات هذا لكان كافور من أحسن الأمراء.
فأعجبها ما سمعته عن أصل هذه الدولة ومن هو كافور، لكنها ما زالت تحب أن تستزيد من خبره فقالت: «قلت إن كافورًا كان عبدًا. وهل تعني أنه كان أسود اللون، أو هو مملوكٌ أبيضُ؟»
فقال: «هو أسود اللون شديد السواد بصاصًا، لكن سواده لم يمنع من خُضُوع القوم له وإن لم يخضعوا له جميعًا … قد طال بنا الكلام والطبيب شالوم في انتظارنا. لكن لا بأس من إتمام الحديث باختصار إذ ربما لا نقدر على ذلك في حضوره …» قال ذلك ونهض فنهضت لمياء معه فأتم حديثه وهما واقفان فقال: «اعلمي يا لمياء أن أمراء هذه المملكة وجُندها الآن قسمان قسم مع كافور ينصرونه ويأخذون بيده ويقال لهم الكافورية، وقسم مع آل الإخشيد يعدون كافورًا مختلسًا ويُقال لهم الإخشيدية وهم كثيرون. والنقطة الهامة اليوم أن كافورًا مريض ولا ندري هل مرضه خطر أم لا. فإذا انتهى هذا المرض بالموت فإن أحوال مصر تضطرب وتتضعضع؛ إذ ليس مَن يتولى الإمارة من أصحاب الحق بعده إلا غلام لا يتجاوز عمره ١١ سنة. وسنعرف حال كافور أو صحته من الطبيب شالوم، هيا بنا إليه.»
قال ذلك ومشى فمشت لمياء معه وهي تتأمل في ما سمعته عن اضطراب أحوال هذه الدولة وقد استبشرتْ بنجاح مهمتها.