أبو حامد وسالم
فلما خلا بهم المكان التفت كافور إلى يعقوب، وقال: «إن الطبيب — حفظه الله — طمأنني وخفف عني وقد صدقته لكنني ضعيف وأخاف …» واختنق صوته.
فابتدره الطبيب قائلًا: «لا ينبغي لمولانا أن يشك في قولي ولا أن يفكر في أمر يسوءه، ولا أعول في ما أقوله على فعل العقاقير ولكني استبشرت أيضًا من دلالة النجوم؛ فقد تفقدت الطالع في مساء أمس فوافق ما أتوقعه. أنت يا مولاي في صحة، والتوفيق خادم لك.»
قال: «ذلك الذي أريده، ولكن كيف أطمئن لحالي وأنا أرى ما أراه من الضعف؟»
ثم وجه كلامه إلى يعقوب، وقال: «بل كيف يرتاح خاطري وأنا أرى أحوال هذه الدولة … أنت تعلم يا يعقوب ما في قلبي، وأحب أن أُشرك طبيبنا في الأمر لوثوقي به، وقد سلمت إليه روحي أفلا أبوح له بسري؟ أنا لا أثق بأحد من هؤلاء الذين ترونهم حولي؛ إنهم لا يلبثون إذا لفظت نفَسي الأخير أن ينقلبوا علي، لا يهمني ذلك، ولكني أخاف على هذه الدولة، إذا مت أنا فإن الإمارة تفضي إلى غلام في الحادية عشرة من عمره وهو صاحب الحق فيها. أو يتنازعها أعمامُهُ والقواد فتفسد الأُمُور و…»
وتنحنح وكأنه ندم على ما قاله، فعاد وقال: «ولكن لا … إني سأعيش ريثما أدبر شئونها … أليس كذلك أيها الطبيب؟»
فأسرع إلى الجواب بلهفة قال: «بلى يا سيدي هذا هو اعتقادي.»
فتزحزح كافور في فراشه فنهض الطبيب وقال: «يحب مولاي أن ينام؟»
قال: «لا … لا أرى فيَّ ميلًا إلى الرقاد لكني أحببت أن أغير وضعي … هل رأيت وزيرنا أبا الفضل (ابن الفرات) اليوم يا يعقوب؟»
قال: «كلا يا سيدي لم أره … هل تأمر بشيء أبلغه إياه؟ أم تحب أن ندعوه إليك إلى هنا؟ أم ماذا؟»
قال: «لا … لكنني استبطأته، ولعله لم يشأْ أن يأتيني؛ لئلا يشغل ذهني بأمور الدولة ففضل لي الراحة … لا بأس من ذلك.»
وهَمَّ يعقوب أن يجيبه فرأى الحاجب دخل ووقف في المكان الذي يقف فيه إذا كان آتيًا بخبر، فقال له كافور «ما وراءك؟»
قال: «إن أبا حامد بالباب يا سيدي.»
فلما سمعت لمياء اسمه أجفلتْ وتسارعتْ دقاتُ قلبها حتى كاد ذلك يظهر عليها، ولحظ يعقوب اضطرابَها فأومأ إليها تتجلد. ولم يكن أسرع منها إلى التجلُّد؛ لِما فطرت عليه من قوة النفس ورباطه الجأش. فانزوتْ وراء عمود القبة والمذبة بيدها بحيث لا يظهر وجهها ولا ينتبه لها أحد. وكان كافور يستأنس بالطبيب لِما في كلامه من الذكاء وما يبسطه بين يديه من الآمال فقال له: «هل نُدخل هذا الرجل علينا الآن … هل ترى بأسًا من ذلك؟ إنه طلي الحديث حاد الذهن ولا يختار من الأحاديث إلا ما يسرنا، وكلما زدناه اهتمامًا بسماع حديثه زادنا مغالاةً في غرائبه، لا بأس به … إنه لطيف المعشر.»
فقال الطبيب «إنك يا مولاي في حاجة إلى من يؤانسك بالأحاديث اللذيذة المفرحة فإذا كنت تجد في حديثه شيئًا من ذلك فادعُه …»
ونظر كافور إلى يعقوب كأنه يستشيرُهُ فقال: «إذا شاء مولاي أن يدخله فليشترطْ عليه أن يقص علينا نحو ما قصه مرة من الأخبار المفرحة.»
قال: «لكنه قصها علينا سرًّا …»
فتصدى الطبيب للكلام قائلًا: «أما أنا فإذا كان وجودي مانعًا مِن سماع الأخبار المفرحة فإني منصرف»، وتحفز للانصراف.
فأشار إليه كافور بكلتا يديه أن يبقى، وقال: «إذا استغنيتُ عن رجال الدولة جميعًا لا أستغني عنك. ولا أرى بعد ما رأيته من صدق مودتك وعظيم فضلك أن أخفي عنك سرًّا كهذا. فليدخلِ الرجل ويقص ما يقصه وأنت حاضر ولنفرحْ معًا إذا كان فيه ما يفرح»، وأشار إلى الغلام أن يدخله.
فقال الغلام «أدخلْه وحده، أو مع رفيقه؟»
قال: «ليدخل الاثنان.»
فأدركت لمياء أن رفيقه إنما هو سالم بعينه فأخذت تتجلد. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب وأخذ الفراشون بإنارة الشموع فأصبحتْ لمياء في موقفها تخفيها ظلالُ الستائر بحيث لا ينتبه لها أحد وهي ترى كل حركة وتسمع كل صوت، ولم تبق حاجة إلى المذبة بعد الغروب وقد خَفَّتْ وطأة الذباب. ونسي كافور وجودها عند رأسه فوقفت لا تتحرك.
وبعد قليل دخل أبو حامد وقد تزيا بغير زيه المعهود ودخل سالمٌ في أثره وقد تغير شكلُهُ وهندامُهُ حتى كادت تنكره، لكنها ما لبثتْ أن سمعته يلقي التحية حتى تحققتْ أنه هو بعينه. فخفق قلبُها وارتعدتْ فرائصُها وهي تتجلَّد وتتمالكُ لترى ما يكون. على أنها لم يكدْ يقع بصرها عليه حتى تذكرت تاريخ معرفتها به وكيف كانت تستهلك في حبه، وودت في تلك الساعة أن يخرج بريئًا من تلك التهم واستعاذتْ بالله أن يكون كما قيل لها عنه، وندمت على مجيئها إلى ذلك المكان لتسمع أقواله بأُذُنها. وخافتْ إذا سمعت شيئًا يثير غضبها أن لا تقوى على إمساك عواطفها فيفتضح أمرُها، لكنها استجمعت قواها وتجلدت.