لمياء فتاة القيروان
وكان المعز قد بات تلك الليلة وخف بلباله بعد ما دار بينه وبين قائده من الحديث. وفى صباح اليوم التالي قام بفروض الصلاة ثم ذهب إلى العمل، وبينما هو جالسٌ في ديوانه ينظر في أعماله ويقرأ كُتُب العمال، ويجيب عليها بنفسه جاء غلامُهُ خفيف الصقلي وأستأذنه في كلمة فقال: «ما وراؤك؟»
قال: «إن مولاي القائد بعث فتاة قال إنها لقصر مولانا.»
فقال المعز: «أدخلها … أين هي؟»
فدخلت الفتاة وهي تنظر إلى ما في تلك القاعة من صناديق الكتب وليس فيها غير الخليفة وكاتب. وكانت لمياء طويلة القامة أشبه في مشيتها بالرجال منها بالنساء مع جمال وهيبة. سمراء اللون كبيرة العينين إذا نظرتَ فيهما توهمتَ أنهما تخاطبانك بصيغة الأمر. مقوسة الحاجبين متناسبة الملامح غليظة الشفتين قليلا عريضة الوجنتين مما يدل على القوة. حول رأسها عصابة تدل منها خيوط في أطرافها كرات من الذهب أو قطع أُخرى من المصوغات. وقد أرسل شعرها على كتفيها متجعدًا وأحاط به رداءٌ كالخمار عقد في أعلى الصدر بعروة من الذهب. وحول عُنُقها عقودٌ من الجزع ونحوه — كما ترى في الشكل.
فلما وقع نظر المعز عليها لم يتمالك عن الإعجاب بها، وخصوصًا بعد ما سمعه عنها من قائده فاستدناها وهش لها تلطفًا وقال: «تقدمي يا فتاة … ما هو اسمك؟»
قالت: «لمياء يا أمير المؤمنين.»
قال: «ألعلك ابنة نصيرنا صاحب سجلماسة؟»
قالت: «نعم يا مولاي.»
قال: «وهل سرك أن تكوني في قصرنا؟»
قالت: «هذا شرف لا أستحقه.» وابتسمت بامتنان.
قال: «بل أنت أهل لأكثر من ذلك. ألعلك متزوجة؟»
فلما سمعت سؤاله أطرقت وبان الخجلُ في محياها من الدم الذي تصاعد إلى وجنتيها ولم تُجب.
فعلم أنها عذراء فاكتفى بذلك الجواب وقال لها: «اذهبي مع غلامنا هذا إلى أُم الأمراء؛ فإني أوصيتها بك خيرًا، وستحسن وفادتك. لكني أرجو أن تكوني حسنة الاعتقاد بنا.»
فرفعت بصرها نحوه وقالت: «إذا كنت تعني غير الاعتقاد بصحة خلافة آل البيت فلا …»
فأعجب بصراحة جوابها وقال: «إنك لَنِعم الفتاة العلوية، لولا ما أراه من كثرة الحلي على رأسك وصدرك؛ فإننا لا نرى الجُنُوح إلى شيء من أسباب الترف.»
ولم يتم كلامه حتى أسرعت بيدها إلى رأسها وصدرها واستخرجت ما كان عليهما من الحلي والعقود ورمت بها إلى الأرض وقالت: «لم أكن أعلم ذلك يا سيدي … وقد كان لي بما شاهدته من بساطة ردائك عبرة وعظة … هذه جواهري أرميها تحت قدميك …»
فازداد المعز فرحًا بها وابتسم لها ابتسام الرضا والإعجاب، وقال: «بُورك فيك، أنت ستنالين أضعاف ما نزعتِه من الجواهر. فضلًا عن سرور أم الأمراء بك.» وأشار إلى الصقلي فمشى بها وعاد المعز إلى عمله.