في اليقظة
فأشارتْ مطيعة واختلتْ في غرفة لبست فيها ثوب الصقالبة الذي دخلت به الفسطاط واستأذنت بالانصراف وخرجت وهي تذكر الطريق التي جاءت بها وتتوهم أنها مرتْ في تلك الطريق منذ بضعة أيام وقد مر على ذلك عدةُ أشهُر. وصلت الفندق فرآها صاحبه بالترحاب وأبدى غاية الاستغراب لما رآها فيه من النحول وسألها عن سبب غيابها وأن خاطره شغل عليها كثيرًا حتى خاف أن تكون قد ماتت — قال ذلك بين الجد والهزل — فاستلطفتْ مجونه وقالت: «الحمد لله أني لا أزال حيًّا (لأنه يعرفها غلامًا صقلبيًّا) ولو مت ما الذي كنت تصنعه بالجواد؟»
قال: «أي جواد يا سيدي.»
قالت: «الجواد الذي جئت عليه.»
قال: «إن الجواد أخذه رفيقاك ومضيا» يعني الدليل والخادم.
قالت: «وكيف أذنت بذهابهما؟»
قال: «لما استبطآ قدومك استأذنا في الانصراف»، وضحك لهذا التعبير.
فقالت: «وماذا فعلتم بثيابي وأمتعتي؟»
قال: «هي باقية في الغرفة التي كنت نازلًا فيها ضمن صندوق مقفل ولكن جاء بعض المسافرين واستأجروا الغرفة مني فأبقيت الصندوق في بعض جوانبها — على ما أظن.»
قالت: «أعطني الأمتعة، أين هي؟»
قال: «هي هنا، تفضل يا سيدي.» ومشى نحو الغرفة التي باتت فيها ليلة وصولها الفسطاط وهو يتثاقل في مشيته وهي تتبعه. فلما دنا من الغرفة هز بابها فإذا هو مقفل فقال: «لا أدري لماذا يقفلون الغرف كأنهم يخافون أن أسرق ثيابهم …»
قالت: «أَلَا يمكن الحصولُ على الأمتعة الآن؟»
قال: «كلا … أخاف أن أفتح الباب في غيابهم فيتهموني بالسرقة. ليس كل الزبائن لطفاء الأخلاق والوجوه مثلك يا سيدي. لكن لا يلبثون أن يأتوا … تفضلْ واجلسْ في غرفتي … يظهر أنك تشكو تعبًا على أثر المرض.»
فمشتْ في أثره إلى غرفة بجانب تلك وفتح الباب وأشار إليها بالدخول، وقال: «إن هذه الغرفة لي وحدي وقد تركتها لك، تفضل استرح.»
وكانت تعبت من المشي؛ لأنها أول مرة خرجت بها من المنزل فدخلت واستلقت على مقعد هناك وأغلقت الباب خوفًا من انكشاف أمرها واستلذتْ تلك الخلوة، فأخذت تفكر بما أصابها بالفسطاط. وطرق ذهنَها خصوصًا الحلم الذي رأتْه وهي مريضةٌ إذ رأت الحسين مغلولًا في أشد الضيق وقد حاولت أن تُقنع نفسها أنه حلم لكنها لا تتصوره إلا واقعا.
وتذكرت تلك الجلسة في بيت كافور وما تحققته من خيانة سالم، فاقشعر بدنُها ولم تكد تتصوره حتى سمعت صوتًا مثل صوته يرنُّ في أذنها فذعرتْ وأصغت فإذا هي حقيقة تسمع صوته، فجلست على المقعد، وأصاخت بسمعها وهي تحسب ذلك حلمًا آخر. فإذا هي تسمع وَقْعَ أقدامٍ ببابِ الغرفة فنهضتْ وتهيأتْ للوثوب واستعدت للمقاومة فإذا بالخُطى تتجه نحو الغرفة الأُخرى التي كانت لها وسمعت صوتًا مثل صوت أبي حامد فتسارعتْ دقاتُ قلبها وأسرعتْ إلى باب غُرفتها فأوصدتْه وجعلت أنها نائمةٌ ووجهت انتباهَها؛ لتتحقق هل هي في يقظة. فسمعت أبا حامد يقول: «أوصد الباب يا بني وتعال.»
وسمعته يوصده، ثم سمعت قائلًا يقول: «أوصدته … هات ما عندك؟» وهو صوتُ سالم. فتأكدتْ أنهما نازلان في تلك الغرفة ففرحتْ بتلك الفرصة لكن تأثرها كاد يذهب بنفسها لتسارُع دقات قلبها. فتجلدتْ وتذكرت ما كان من بسالتها ورباطة جأشها ومواقفها في ساحة القتال فتماسكتْ وأصغتْ. فسمعتْ أبا حامد يقول: «ذهب ذلك الأَسْوَدُ ولم ننل منه وطرًا … ولكن ذلك من سوء حظه.»
فقال سالم «وسوء حظنا أيضًا يا عماه.»
قال: «ما أضعف عزمك يا سالم … أتحسب قدوم ذلك المملوك الصقلي (جوهر) يغير عزمي؟ إنه لا يلبث أن يعود على أعقابه …»
قال: «كيف يعود؟ وقد أتى بجيش جرار ولحظت القوم هنا خائفين.»
فقهقه أبو حامد فتصورت لمياء ما يرافق قهقهته من التكشير عن سنيه البارزتين، ثم سمعتْه يقول «لا يلبثُ خوفُهُم أن يذهب متى وصل ذلك الغلام مغلولًا.»
قال: «وأي غلام؟»
قال: «أي غلام! صحيح أنك لم تعلم بعد بالقبض على الحسين.»
فلما سمعت لمياء ذكر الحسين اختلج قلبُها وتسارعتْ دقاتُهُ حتى شوشت عليها سماعَ الحديث فإذا سالم يقول: «قبضوا على الحسين؟ لا لم أعلم بذلك بعد. أين قبضوا عليه؟»
قال: «في فج الأخيار … لأن لمياء اللعينة أفشت السر وأخبرت المعز بوجود المال هناك فتبرع هو بالذهاب ليحمل ذلك المال إليهم. وجاءني الرسول أمس أن رجالنا هناك قبضوا عليه وأوثقوه وسألوني عما يفعلونه به فأجبتهم أن يحملوه إلى هنا. فإذا جاء حبسناه وجعلناه رهنًا … ما قولك؟»
فقال: «لم أكن أعلم ذلك … بارك الله فيك. كيف لم تخبرني به حتى الآن …»
قال: «لأني لا أثق بأحد ولو لم أر خوفك لم أخبرك به. لكنني لم أعلم أين ذهبت تلك الفتاة المفتونة. فقد أخبرني الجواسيس أنها خرجت من القيروان ولكني لم أعلم إلى أين؛ لأنها أخفت جهة مسيرها.»
قال: «ما ظنك بها؟»
قال: «أظنها أتت إلى هنا؛ لأن يعقوب اليهودي هو الذي أنبأ المعز بعزمنا على قتله فنجا بذلك. ويغلب على ظني أن لمياء أتت إلى الفسطاط لكنني لم أستطع البحث عنها في حياة كافور؛ لأنه كان يقرب ذلك اليهودي ويصغي إليه … أما الآن وقد مات كافور فإني أوغرت صدر ابن الفرات عليه فأصبح يطارده ولا يلبث أن يصادره. وهو يسعى الآن في إقناع القواد أن يسلموا لجوهر. ولكنه لن يفلح؛ لأنهم مختلفون لا رابطة لهم وكُلٌّ منهم يطمع بالمال لنفسه وهم طوائفُ أهمها الإخشيدية والكافورية والأتراك، وليس عليهم أميرٌ حازمٌ يجمع كلمتهم. وفى عزمي أنْ أجمع شتاتهم بواسطة السيدة زينب بنت الإخشيد؛ لأنها كانت نافذةَ الكلمة عندهم، لكنها امرأةٌ ولا تعلم كيف تعمل فضلًا عن اشتغالها بأمر نفسها … لا تخف يا بني … كُنْ على ثقة مِن تدبيري.»
وكانت لمياء تسمع كلامه وفرائصُها ترتعدُ فإذا بسالم يقول: «قد أدهشتني يا عماه بهذا التدبير … بارك الله فيك.»
فقال: «كيف لا وقد قضيت عمري في دس الدسائس عملًا بوصية ذلك المقتول ظلما … إني منتقم له كن في راحة … ولكن تلك الملعونة أين ذهبت لا أدري.»
قال سالم: «ما لنا ولها فلتكن حيثما شاءت.»
ثم استولى السكوتُ كأن الرجلين ناما وأخذت تفكر بما سمعته فرأت أنها استطلعت أشياء كثيرة لم تكن تعرفها وخصوصًا أمر الحسين والقبض عليه وأن المصريين يسعَون في مصالحة جوهر والتسليم له وأن الأمر موقوفٌ على بنت الإخشيد. وقد صدقت أنهم قبضوا على الحسين؛ لأنها رأت ذلك رأي العين في أثناء الغيبوبة فلم تعد تستطيع البقاء هناك واحتالت في الخروج فلقيها صاحب الفندق فسألته عن الثياب فقال: «هل أتى الأضياف؟»
قالت: «أظنهم أتوا؛ لأني سمعت حركة.» فقال: «قبحهم الله يدخلون كاللصوص!» وأسرع وعاد إليها بالثياب. فتناولتْها ودفعت إليه أجرته وانطلقت تطلب بيت الشريف مسلم بن عبيد الله. وكان الليل قد سدل نقابه، فأسرعت حتى وصلت فرأت الخيول متزاحمة في الباحة والناس وقوفٌ بالباب فاستأذنتْ في الدخول فأذن لها وسألت عن الشريف فقِيل لها إنه في خلوةٍ مع جعفر بن الفرات. فجلستْ وهي في غاية الاضطراب وأصبحتْ في شوق لمعرفة ما يدور بين الرجلين.