بنت الإخشيد
وكانت بنت الإخشيد تُقيم في قصرٍ قُرب دار عبد العزيز أكبر دور الفسطاط وقد تقدم ذكرها. وذكرنا ما فيها من الغُرف وعدد ما فيها من الناس، وهي واقعةٌ على ضفة النيل الشرقية، يُقابلها في المغرب جزيرةُ الروضة. وقصر بنت الإخشيد فخمٌ يطل على النيل قد فُرش بأثمن الرياش.
والدولةُ الإخشيديةُ يومئذٍ في إبان بذخها تقلد العباسيين بما في دُورهم من الرياش الفاخر والأثاث الثمين بالأبسطة المطرزة والأستار المزركشة قد شدت إلى الجدران بمسامير الفضة وفرشوا غُرَفَ النوم بالأَسِرَّةِ الذهب أو الأبنوس المنزل بالعاج ونصبوا منائرَ الفضة عليها الشموع العنبرية إذا أُوقدت فاحتْ رائحتُها حتى تملأ الفضاء.
تلك كانت طريقة الحكومة في تلك الأيام، ولا سيما في أواخر الدولة.
إنما يهم الحاكم أن يجمع المال لنفسه ويتلذذ بالشهوات وقد يبلغ من تمتعه بالملذات أن يموت من التخمة والرَّعايا حوله يموتون من الجوع.
وكانت بنت الإخشيد في حدود الكهولة تظهر لأول وهلة أنها قوية الخلق وهي بالحقيقة ضعيفة الرأي لكنها جسورة لا تبالي ما تفعل ولا تقدِّر العواقب، وكانت مثالًا لطبقة المترفين من أهل ذلك العصر، لا يفوتها ضربٌ من ضروب الملذات، وكانت وجيهةً نافذةَ الكلمة ليس في رجال الدولة مَن لا يَخشى بأسها، ولا سيما في تلك السنة وقد مات كافور وصارت الأُمُور إلى أحمدَ بن على حفيد أخيها — وهو غلام — فأصبح طبعًا طوع إرادتها هو وكل رجال دولته إلا جعفر بن الفرات، فأحب أن يستأثر بالنفوذ فأغضبها وأغضبته فمال مع الأهلين الراغبين بالتسليم لجوهر قائد جند المعز. وأما سائر الأجناد فكانوا يلتمسون رضاها لا يُبرمون أمرًا إلا برأيها.
وكانت جميلةَ الخلقة لا تزال الملامح التركية ظاهرةً في محياها؛ لأن أباها فرغاني، ويظهر أنها لم تتزوج رغبة في استبقاء عصمتها في يدها فانصرفت قواها إلى التمتع بالحياة والتماس النفوذ والشهرة، فجعلت قصرها مباء لرجال الدولة. وكانت في تلك الأثناء مشغولةَ الخاطر؛ لِما بلغها من عزم المصريين على التسليم ومعهم ابن الفرات، لكنها لم تكن تتوقع حدوث ذلك فعلًا إذ لم تكن على بينة من حقيقة حال الوطنيين ولا مقدار ما بلغوا إليه من الضنك.
ولم يخطر لها أنهم يجسرون على مخابرة الأعداء وكان ينبغي أن لا يفوتها ذلك ولكن حكام ذلك العصر لم يكونوا يحسبون للأمة حسابًا، وإنما يهمهم احتلابها وابتزاز أموالها.
أصبحتْ بنتُ الإخشيد في ذلك اليوم وهي تتوقع أن يأتي رجال الدولة يشكون إليها ما فعله ابنُ الفرات. وقبل نهوضها من الفراش أتتْها المواشطُ والولائدُ يخدمنها في ما تحتاج إليه من الغسل أو اللبس أو تسريح الشعر وتصفيفه. قضين في ذلك ساعة وَهُنَّ يتسابقن إلى استرضائها بالإطراء أو المجون. وهي في ذلك أَتَتْها جاريةٌ تقول: «إن صاحب الرقيق يستأذن على مولاتي.»
قالت: «دعيه ينتظر في البهو الكبير ريثما أخرج. وهل هو وحده؟»
قالت: «معه فتاة لعلها جارية.»
قالت: «جارية سوداء؟»
قالت: «كلا، بل جارية بيضاء جميلة لم أشاهد مثلها قبل الآن.»
فاهتمت بنت الإخشيد بذلك الخبر وأمرت الماشطة أن تسرع في إلباسها، أما لمياء فكانت قد أقبلتْ مع ذلك النخاس على قصر بنت الإخشيد — وهو يمتاز بفخامة بنائه وبوقوف الحجاب ببابه — فمرت إليه في حديقة طُرُقها مرصفة بالحصى الملونة على أشكال الطير والوحوش فتقدمها النخاس وهي تتبعه حتى دخل باب القصر إلى ردهة واسعة فُرشت بالسجاد. وبعض السجاجيد عليها وشي جميل بأشكال الزهور أو بعض الحيوانات أو أبيات من الشعر، فاستقبلتْها القهرمانة قيمةُ القصر وعليها الأساورُ والدمالج وحول عُنُقها العقود حتى تكاد تنوء تحت أعبائها. فقالت لمياء في نفسها: «إذا كانت هذه القيمة فكيف تكون السيدة؟» فدعتهما القهرمانة إلى بهو الاستقبال فدخلا ولمياء تزداد شوقًا لمشاهدة بنت الإخشيد، وذهبت القيمة لإبلاغ الخبر وبعد قليل أقبلت السيدة وهي تجر ذيل ردائها الوردي وراءها وعلى رأسها عصابة مرصعة قلدت بها العالية أخت الرشيد وصفَّفت شعرها تصفيفًا خاصًّا لا يجسر أحدٌ من أهل الفسطاط على تقليده وشبكته بإكليل من الذهب بشكل طائر. وتمنطقت بمنطقة مزركشة لها عروةٌ مرصعة على شكل الكروبيم؛ قلدوا به بعض ما على الآثار المصرية من الرسوم.
وأدركتْ لمياءُ قدومها من حركة الخدم في الدهليز، ومما تضوع من الطيب فوقفتْ ووقف النخاس وتقدم حتى أَكَبَّ على يد الأميرة كأنه يقبلها وفعلت لمياء مثل فعله فظهر التكلُّف في حركاتها؛ لأنها لم تتعودْ مثل ذلك.
فحالَما رأتها بنت الإخشيد وقعت من نفسها موقعًا جميلًا وأعجبها ما في عينيها من المعاني السحرية والضعف زادها سحرًا. فتقدمت إلى لمياء ووضعت يدها على كتفها كأنها تحاول ضمها فاستأنست لمياء بها ووقفت مطرقةً، فأشارت إليها أن تجلس وجلست على مقعد من الأبنوس فرشُهُ مكسوٌّ بالحرير، وقالت: «من أين لك هذه الفتاة؟»
قال: «هذه هدية مِن عبدك يعقوب بن كلس رآها لا تليق بأحدٍ سواك؛ نظرًا لِما هي عليه من الأدب والذكاء. وقد كلفني أن أنوب عنه في تقديمها.»
فلما سمعت اسم يعقوب مر في ملامحها شيء من الانقباض، لكنها أظهرت الامتنان، وقالت: «إنها هديةٌ نفيسةٌ لا أظن يعقوب أهدى مثلها في حياته، فالظاهر أنه يلتمس منا خدمة بعد أن أغضب الوزير جعفر (ابن الفرات) … إن أولئك اليهود أمرهم عجيب … قد قبلنا هذه الهدية مع الشكر بارك الله فيك!» قالت ذلك ومدت يدها فاستخرجت خاتمًا من إحدى أصابعها ودفعتْه إليه فتناوله وقبله ومضى.
وظلت لمياء صامتة، وقد أدهشها ما رأته من التبايُن العظيم بين حال الأمة المصرية وحال حكامها أو أهلهم، وقابلت بين بنت الإخشيد بمصر وأم الأمراء في القيروان. وترجَّح عندها قُرب سقوط هذه الدولة. وهي في ذلك أتى الحاجب فوقف قرب الباب فعلمتْ بنتُ الإخشيد أنه يُريد مخاطبتها في أمر فأومأتْ إليه فتقدم فقالت: «ما وراءك؟»
قال: «إن بعض القواد الإخشيدية يلتمسون المقابلة.»
فأظهرت استنكافَها وقالت: «دعهم ينتظرون.» ونهضتْ وأشارتْ إلى لمياء أَنْ تتبعها وسألتها «ما اسمك؟»
فبغتت وأوشكتْ أن تقول اسمها الحقيقي، فبلعتْ ريقَها وقالت: «سلامة يا سيدتي.»
فقالت: «اسمك جميل.» وصفقت ونادت القهرمانة فأتتْ فقالتْ لها: «كيف تَرَين هذه الفتاة المغربية؟»
فنظرتْ إليها وهي تبتسمُ وقالت: «ما شاء الله إنها جديرةٌ أن تكون في قصرك.»
قالت: «فإليك هي أفردي لها غرفةً خاصة ولتسترح الآن.»
فأشارت مطيعة وانصرفت ولمياءُ تتبعها حتى أَدْخَلَتْها غرفةً بها نافذةٌ تطل على النيل فاستأنستْ بمجرى الماء، لكنها لم تأتِ إلى ذلك القصر وتركب ذلك المركب الخشن لتتمتع بالمناظر الطبيعية فأخذت تفكر فيما ينبغي أن تفعل، وتذكرت أن الحاجب أنبأ بنت الإخشيد وهي في حضرتها عن قُدُوم بعض القُوَّاد لمشاهدتها، وهي فرصةٌ ينبغي لها أَنْ لا تفوتها والوقت ضيقٌ لا يأذن بالتأجيل فأخذتْ تفكرُ في حيلة تستنبطها لحضور تلك الجلسة، لعلها تستطلع شيئًا.