جلسة أخرى
وكانت الشمسُ قد مالتْ إلى الأصيل وتحفزتْ بنتُ الإخشيد للنهوض، فوقع بصرُها على قارب يجري في النيل بسرعة فالتفتتْ لمياء وتفرست بمَن فيه فلم يَطُلْ تفرسها حتى رأت فيه جماعة فيهم أبو حامد وسالم، فخفق قلبُها وارتعدت فرائصها وعلتها البغتة وتوردت وجنتاها لكنها تجلدت وتجاهلت فقالت بنت الإخشيد: «هل ترين ذلك القارب؟ يظهر أنه قادمٌ إلينا وقد تعبنا اليوم من المقابلات.» قالت ذلك ونهضت حتى أَطَلَّتْ من الشرفة ولمياء معها فرَأَتَا القارب وقف عند المسناة بقُرب باب القصر فقالت: «إنهما قادمان إلينا — بلا شك — فهل أقابلهما؟»
قالت لمياء: «تسألينني يا سيدتي؟ إني لا أرى بأسًا من المقابلة من وراء هذا الستر لعل مع القادمين خبرًا جديدًا، فإذا أعجبنا استفدنا منه، وإلا أهملناه.»
قالت: «لله درك من حكيمة عاقلة … يا ليتني ظفرت بك من قبل.»
وبعد هنيهة جاء الحاجبُ يستأذنُ لرجلين مِن أعيان المغرب. فأذنت بنتُ الإخشيد في إدخالهما وأخذ قلبُ لمياء بالخفقان حتى خافت أن تخونها عواطفها فتشاغلت بالالتفات إلى النيل لئلا يبدو ارتباكُها. ثم دخل الرجلان فرأت من وراء الستر أنهما أبو حامد وسالم فجعلتْ تُغالب عواطفها لترى ما يكون، وهي تتوقع أن ترى شيئًا جديدًا يتم لها به ما كشفتْه في تلك الجلسة، وكان قد أقلقها ما سمعته من القبض على الحسين.
فلما دخلا ألقيا التحية — كالعادة — فأمرت لهما بنت الإخشيد بالجلوس ورحبت بهما ولمياء تتفرس فيهما فرأتْ سالمًا على غير ما تعرفُهُ من الجمال فظنتْ أن السفر غَيَّرَه والواقع أن ما عرفته من خيانته وغدره قَلَّلَ كثيرًا من جماله، بعضه من تأثير الاحتقار والبعض الآخر من تأثير العواطف على الملامح.
فإن الرجل ضعيف الخلق قد ينشأ وفي وجهه هيبة وأنفة فإذا توالى عليه الذل ظهر في سحنته شيء منه.
فلا غرابة لما ظهر لها من تغير سحنته وقد مضت سنة وبعض السنة وهو ينقاد لأبي حامد ويظهر بما يريده له من المظاهر المختلفة، أما أبو حامد فقد كان أقوى خلقًا وأثبت عزيمة. يدلك على ذلك بقاؤه على المطالبة بدم أبي عبد الله الشيعي دهرًا لا يرى لنفسه عنه متحولًا رغم ما لقيه من الفشل على أنواعه، وآخر فشله في أمر كافور وقد أوشك أن ينجح لو بقي كافور حيًّا ولم يصب جند مصر ما أصابه من الانقسام. ومع علمه بانقسام الجند وضعفه فإن عزمه لا يزال ثابتًا ولم يرجع عما عزم عليه منذ أعوام وهو يسوق سالمًا معه فيطيعه ويقول بقوله.
فلما جلسا بعد إلقاء التحية قالت بنت الإخشيد: «مرحبًا بالأضياف، من أين أتيتم؟ ومتى كان قدومكم؟»
قال أبو حامد: «أتينا مصر منذ بضعة أشهُر، ونحن من أمراء المغرب في سجلماسة، أصابنا ما أصاب سائر أمراء المغرب من ظلم العبيديين ففتحوا بلادنا واستبدوا فينا وطلبوا إلينا التسليم فلم نقبل فأتينا مصر لنعيش في ظل الإخشيديين حيث لا يقع بصرُنا على أحد من أعدائنا ولعلنا نستطيع خدمة لهذه الدولة. وقد بلغنا أمس أن دعاة الخلافة بالمغرب زحفوا على مصر بقيادة المملوك الصقلي فصرنا نتوقع أن تجتمعوا لدفعهم؛ لأن هذا الأمر يهمنا كثيرًا وعدو عدوى صديقي. لكننا سمعنا بما أصاب قُلُوب بعض القواد والوزراء من الخوف حتى تحدث بعضُهُم بطلب الصلح. فاستغربنا هذا الضعف وأحببنا أن نُبرهن للأجناد خطأهم فلم نر أوجه من بنت الإخشيد؛ لأن الأمير حفيد أخيها وهو غلام فهي صاحبة الصوت الأقوى.»
وتنحنح أبو حامد ومسح شاربيه بيده وأرسلها على لحيته وحك عثنونه.
فقالت بنت الإخشيد: «بارك الله فيك ما الذي جئتنا به من أسباب الاطمئنان؟»
قال: «إن ما جئتك به يا مولاتي إنما هو أن أسعى في التوفيق بين القواد الإخشيدية والكافورية. وهذا لا يكون إلا أن أُثبت لهم أن جُند المغاربة لا يستطيع أن يفتح هذه البلاد؛ لأن انقسامهم إنما وقع بسبب خوفهم من الفشل وهذا طبيعي في كل زمان ومكان، لا يختصم شريكان إلا إذا خسرت تجارتهما. فإذا برهنتُ لهم — على يدك — أن أولئك الدعاة لا يمكن أن يفتحوا مصر تشددوا واتحدوا وطردوا العدو عن بلادهم.»
فأُعجبت بنت الإخشيد بفصاحته وقوة حجته ونظرتْ إلى لمياء فوجدتها مصغية بكليتها ولم تنتبه إلى ارتباكها فقالت لأبي حامد: «وما هو دليلك؟»
قال: «دليلي أن قائد جند المغاربة رجلٌ اسمُهُ جوهرٌ الصقلي، ولهذا الرجل غلام اسمه الحسين وهو عزيز عليه، فعلم الحسين هذا بمال كنا قد خبأناه في بعض الأماكن قرب سجلماسة لنستعين به على استرجاع ملكنا، فاغتنم غيابنا وذهب بشرذمةٍ من الجند ليقبض ذلك المال، لكن رجالنا هناك قبضوا عليه وأرسلوه إلينا مغلولًا، فإذا شئت دفعناه إليك ليكون رهنًا تهددون به أباه إن توهم اقتداره على مصر.»
وتذكرت بنت الإخشيد قول لمياء إنها تعرف المعز وقائده وسائر رجال الدولة في القيروان، فلما سمعت ما قاله أبو حامد عن الحسين بن جوهر التفتت إليها فوجدتْها لا تزال شاخصة تتطاول بعنقها لسماع بقية الحديث فقالت لها همسًا: «هل تعرفين الحسين بن جوهر؟»
قالت: «نعم أعرفه وأحب أن تأمري بإحضاره لئلا يكون هذا الرجل كاذبًا.»
قالت: «وهل تعرفين هذين الرجلين؟»
قالت: «نعم رأيتهما في القيروان، وسمعت عنهما ما يُضعف الثقة بهما، فإذا أمرتِ بإحضار أسيرهما لنراه كان ذلك أقرب إلى التحقيق.»
فالتفتت بنت الإخشيد من وراء الستر وقالت: «أين هو ذلك الأسير.»
قال أبو حامد: «هو عندنا وإذا شاءت مولاتي أتيناها به.»
قالت: «افعل، ولك الفضل.»
فأشار أبو حامد إلى سالم أن يمضي لاستقدامه فمضى، ولبثت لمياء على مثل الجمر تتماسك وتتجلد؛ لئلا تغلبها عواطفها وهي تحب أن يكون كاذبًا في قوله فيكون الأسير المزعوم رجلًا آخر، لكنها ما لبثت أن سمعت ضوضاء قرب الباب وسالم يقول: «تقدم يا جبان لتراك مولاتنا بنت الإخشيد.»
فتطاولت لمياء بعنقها حتى وضعت عينها على ثقب الستر وإذا بالحسين نفسه داخل والأغلال الحديدية في عنقه ويديه لكنه مشى بقدم ثابتة والتفت إلى سالم وقال له: «متى رأيتني أحاول الفرار حتى تدعوني جبانا؟»
فالتفتت بنت الإخشيد إلى لمياء لتستطلع رأيها في الرجل فرأتها ترتعد وقد احمرت عيناها وكادت تغلب على أمرها فقالت: «هل هذا هو الحسين كما يقول؟»
فأشارت برأسها أن «نعم» ولم تَفُهْ بكلمة؛ لئلا يختنق صوتها فينفضح أمرها فاستغربتْ بنت الإخشيد ما بدا من اضطرابها لكنها وجهت خطابها إلى الحسين قائلةً: «هل أنت الحسين بن جوهر قائد جند المعز؟»
فأجابها وهو رابط الجأش ثابت الجنان: «نعم أنا الحسين بن جوهر، فاتح أفريقية وقائد جند المعز، وسيفتح مصر عن قريب.»
فوخزه سالم بيده وقال: «اخرس يا نذل، أبمثل هذه الوقاحة تخاطب مولاتك؟»
فرفسه الحسين برجله وقال اخرس أنت إنها مولاتك أنت، ولعلها لو عرفتك تبرأتْ من هذه الولاية أما مولاي فهو المعز لدين الله الفاطمي.»
فتصدى أبو حامد للكلام — وهو يضحك ضحك الاستخفاف — وقال: «ألا تزال تسمي ذلك الدعي فاطميًّا وفاطمةُ بريئةٌ من نسبه؟»
فقال الحسين: «إنه فاطمي رغم خيانتك وغدرك.»
فقالت بنت الإخشيد: «الذي أوقعك في هذا الأسر، ما كان أغناك عنه.»
قال: «وقعت فيه تفانيًا في خدمة مولاي المعز، وقد فزت — والحمد لله — بما أردت فأخذت المال الذي خزنوه في فج الأخيار وبعثت به إلى القيروان وهو الآن مع والدي وقد صبوه قطعًا كالأرحية حملوها معهم على الجمال …»
قال أبو حامد: «لا تكذب!»
قال: «إنما الكاذب أنت! إني قد فعلت ما يُطلب مني وأرسلت ذلك المال إلى مولاي المعز، وسيستعين به في فتح مصر، ولا يغرنك ما أتاه رجالُك من الخيانة في القبض عليَّ؛ فإن ذلك غير ضائري. قد قمت بما علي وإذا مت الساعة لا أبالي؛ فإن الأعلام الفاطمية لا تلبث أن تخفق فوق الفسطاط وإذا لم أوفق إلى رؤيتها وأنا حي فإن عظامي تراها وتفرح.»
فأُعجبت بنت الإخشيد بتلك الجسارة التي لا تقدر أن تتصورها ولا سمعت بمثلها لما نشأت عليه من الخمول والرخاء، فالتفتت إلى لمياء فرأتْها — مع عظم تأثرها — قد غلب البشر على محياها فقالت لها همسًا: «أستغرب ما أسمعه.»
قالت: «لا تستغربي يا سيدتي؛ فإن ذلك شأن أولئك الأقوام وهم لم يفتحوا أفريقية إلا بمثل هذا التفاني.»
قالت: «ومع ما سمعته من هذا الشاب فإني شعرت بانعطاف إليه ولم يعجبني تطاوُل هذا السجلماسي.»
فلم تتمالك عن الانتصار لحبيبها فقالت: «فكيف لو علمت الفرق بين الرجلين بالأخلاق.»
قالت: «هل تعرفين شيئًا عنهما؟»
قالت: «إن أهل القيروان يتحدثون بذلك … أما الآن فإذا شئت فمري أن يكون هذا الأسير في دارك ولينصرف ذانك وتري ما يأتي به الغد.»
قالت: «أحسنت الرأي وقد أصبحت لا أُطيق أن أرى الحسين مغلولًا.» وصفقت فأتى بعضُ غلمانها فقالت: «خذ هذا الأسير إلى غرفة يقيم فيها حتى ننظر في أمره لكن احللْ وثاقه؛ إذ لا خوف من فراره.»
فتناوله الغلام بيده وخرج فوقع هذا العمل من لمياء موقعًا جميلًا وكاد قلبها يطير من الفرح. ولحظت بنت الإخشيد ذلك فيها فظنتْها فعلتْه لشعور مثل شعورها فعذرتها والتفتت إلى أبي حامد وقالت: «سننظر في ما عرضته علينا وسأقص ما رأيته على قوادنا فعسى أن ينفعنا ذلك.» ففهم أبو حامد أنها تطلب انصرافهما فنهض وخرج مع سالم وقد سقط في أيديهما وإن لم يفهما ما جال في خاطرها.