النصر
فمشت القهرمانة وبنت الإخشيد والحسين حتى وصلوا الغرفة، فوجدوا ذلك الجندي واقفًا إلى النافذة يراقب حركات المتحاربين لا ينتبهُ إلى أحدٍ في الدار فمشى الحسينُ بخفة حتى وقف وراءه بحيث يرى ما يراه. فرأى المغاربة تكاثروا والإخشيدية يفرون مِن أمامهم إلى المدينة وقد تراكم القتلى منهم على الجسر وتجاوزهم بعض المغاربة على خيولهم وظهر الفوز واضحًا لهم فصاح (الجندي): «الحمد لله قد كتب النصر لنا.» والتفت فوجد الحسين وراءه فبغت ووقف لا يبدي حراكًا فصاح فيه الحسين قائلًا: «من أنت.»
فلم يجب وإنما أشار إلى ثوبه أنه جندي فقال: «أنا الحسين بن جوهر فانزع هذا اللثام عن وجهك.»
فأطرق ولم يجب. فقالت بنت الإخشيد: «هذه سلامة حبيبتنا … اكشفي وجهك للحسين يا بنية؛ إنه حامي ذمارنا.»
فلم تجب فتقدمت بنت الإخشيد ورفعت اللثام بيدها فأرادت لمياء تحويل وجهها حتى لا يراها الحسين فرآها وعرفها وصاح «لمياء …» وأمسك بيدها وأدارها نحوه ليتحقق ظنه وهي تحول وجهها عنه حياء، فدهشت بنت الإخشيد لَمَّا رأته وتذكرت ما قاله عن خطيبته، فعلمت أنها هي نفسها، فتقدمت وساعدت الحسين عليها وأمسكت بيدها الأخرى وقالت: «أنت لمياء خطيبة هذا البطل وتزعمين أنك جارية؟ تكلمي …»
فالتفتتْ إلى الحسين لفتة تَعَوَّدَها منها، فأثرت في قلبه تأثيرَ السهم وقال: «تكلمي ما بالك؟»
فقالت وعيناها تلمعان: «قد تعاهدنا أن نلتقي هنا بعد فتح مصر … فهل فتحت؟»
قال: «أوشكت أن تفتح …»
قالت: «اصبر لا تفرح قبل تمام النصر … أنت هنا منذ أيام وأنا عالمة بذلك ولم أشأْ أن أطلعك على وجودي؛ لئلا نشتغل بالقلوب عن السيوف، ولا أزال على ذلك حتى الآن. إن خدمة المعز مقدمة على كل شيء فإذا فرغنا منها وفتحنا البلد استقر لنا الأمر فإني أمتك أترامى عند قدميك.»
قالت ذلك وغصت بريقها وأبرقت عيناها وبان الهيام فيهما واسترخت عزائمها … والحسين ينظر إليها نظر الإعجاب والخجل وقال: «أبيت يا لمياء إلا أن تكوني السابقة إلى الفضل في خدمة أمير المؤمنين إني متفانٍ في خدمته ولكنني دهشت لرؤيتك هنا وأنا أعهد مقرك منذ افترقنا بالقيروان، الحمد لله على هذا اللقاء.»
فنظرت إليه نظرة عتاب وقالت: «وذانك الرجلان اللذان ساقاك إلينا في القيود والأغلال … إني لا أعد النصر واقعًا وهذان الرجلان في قيد الحياة … وأنا في شوق إلى سماع ما جرى لك في أثناء هذا الغياب، وأنت مشتاق إلى حديثي فإذا تم النصر كما نريده نتحادثُ كثيرًا.»
فلما تذكر أبا حامد وسالمًا هاج الدم في عروقه فقال: «أين هما؟»
قالت: «سأخبرك عن ذلك بعد قليل.»
والتفتت بنت الإخشيد إلى لمياء وقالت لها: «سنتركك هنا تبدلين ثيابك.»
قالت: «كلا يا سيدتي لا أُريد أن أغير شيئًا قبل الفراغ من هذا العمل. وهل ترين منظرًا أجمل مما أرى هنا … ليس في الدنيا ألذُّ من النصر في ساحة الحرب … لا صبر لي عن هذا المنظر هيا بنا إلى المعركة.»
قالت ذلك وأسرعتْ فتبعها الحسينُ، وهو يقول: «المعركة … لست أشد مني غيرة على الدولة ولكنك شغلتني …» ونزلا فركب كُلٌّ منهما فرسه وتَسَلَّحَا وبنت الإخشيد ترى وتعجب. فلما خرجا قالت في نفسها «إن قومًا أنصارهم مثل هذين أحر بهم أن يفتحوا العالم.»
ولم يسيرا إلا قليلًا حتى رَأَيَا رجلًا مِنْ أتباع الشريف مسلم حاملًا علمًا أبيض يؤمن الناس فنادته لمياء فوقف فقالت: «من أرسلك بهذا العلم، وكيف الحال؟»
قال: «لما غُلب الإخشيدية وقتل منهم خلق كثير ارتدوا إلى مصر وأخذوا من دورهم ما قدروا عليه وانهزموا فخرج حرمهم مشاة إلى الشريف أبي جعفر وكلفنه أن يكاتب القائد جوهرًا بإعادة الأمان. فكتب إليه يهنئه بالفتح ويسأله إعادة الأمان، وهذا جوابُهُ معي يؤمنهم وهذا العلم الأبيض شاهدٌ على ذلك. فاطمأنَّ الناسُ وخرج الأشرافُ والعلماء ووجهاء البلد بموكبٍ حافلٍ يتقدمه الوزير ابن الفرات وجماعة الأعيان إلى الجيزة لملاقاة القائد عند دُخُوله الفسطاط ولا يلبثون أن يعودوا به. أَلَمْ تسمع المنادي ينادي بذلك؟»
فالتفتت لمياء إلى الحسين وقالت: «قد تم النصر والحمد لله … فلا حاجة إلى الخروج بل ننتظر وصول الموكب.»
فالتفت الحسين إلى لمياء يستشيرها فيما ينبغي أن يفعلا، فقالت: «هلم بنا إلى مقر ذينك اللعينين في الفندق أظنهما هناك.»
فتبعها وساقا الجوادين وقد قاربت الشمس الغروب حتى أتيا الفندق فلما رآهما صاحبه رحب بهما خوفًا منهما وإن كان المنادون قد نادَوا بالأمان، ثم وقع نظره على لمياء فعرفها ورآها بلباس جُند المغاربة فاستأنس بها وتقدم إليها وهو يقول: «هذا صديقنا الصقلبي!»
فضحكت له وقالت: «إننا في حاجة إلى تلك الغرفة الآن.»
قال: «قد دخلها الرجلان في هذه الساعة.»