المناجاة
ولما خلت لمياء في تلك الغرفة تصورتْ ما أصابها من الانتقال في ذلك اليوم. باتت أمس في فسطاط أبيها خارج القيروان وهي الآن في قصر الخليفة المعز لدين الله معززة مكرمة. وتذكرتْ أَنَّ المعز من نسل الإمام علي وفاطمة الزهراء، فاختلج قلبُها من الفرح؛ لحصولها على الحظ بالتقرب من ذلك الدم الطاهر والشرف العظيم. ومشت إلى شرفة مطلة على الحديقة ولم تكد تجلس حتى تقاذفتْها الهواجسُ وتذكرت خطيبها سالمًا وكانت قد أحبته ووطنت النفس على الاقتران به. فلما آن وقتُ العقد أخذت أسيرة مع أبيها ولم تعد ترى سالمًا ولا علمت أين هو. وكانت تعلم مِن أسراره ما لا يعرفه عمه وكان في ما أطلعها عليه من أغراضه أُمُور تنكرها عليه ولا يعلم عمه أبو حامد باطلاعها على تلك الأسرار، ولعله لو علم لم يسمح بتقربها من المعز.
فأطرقتْ حينًا وهي غارقةٌ في التفكير وجعلتْ تُناجي نفسها قائلة: «أين أنت يا سالم؟ لا، لا أصدق أنك قُتلت … لا. لم تُقتل بل أنت مختبئ أو متنكر … أو لعلك تفكر في ذلك الأمر … ليتني أستطيع أن أراك؛ لأطلعك على أُمُور تهون عليك العدول عن عزمك … وأتخلص مما يعرضونه علي … إني لا أحب الزواج إلا بك؛ لأني لم أحب سواك ولكنني مع ذلك لا أوافقك على عزمك؛ لأن فيه خطرًا. آه، أين أنت؟»
وهي في ذلك سمعت حركةً وحديثًا في الحديقة، فتحولت مجاري أفكارها نحو ما سمعته، وجلست تتوقع أن ترى أحدًا — وكانت قد ضفرت شعرها ضفيرتين جانبيتين ولفَّت رأسها بخمار كبير كالحبرة يغطي كتفيها وجنبيها — وما لبث أن سمعت خفق نعال على مقربة من النافذة فتراجعت وهي لا تزال تنظر نحو الحديقة؛ وإذا هي برجلين عرفت منهما القائد جوهرًا وبجانبه شاب في مقتبل العمر يظهر من ملامحه أنه ابنُهُ الحسين، وتذكرت ما قيل لها عن رغبته فيها، فأحست بنفور وانزوت مخافة أن يقع نظرُهُ عليها.
أما جوهر فكان ماشيًا وعليه الجبة والقفطان وفوق رأسه العمامة الصغيرة وحولها الخمار وقد تقلد السيف. وفى مشيته وثبات قدميه ما يدل على أنه قائدٌ عظيمٌ، وأما ابنُهُ فكان في مثل لباسه لكنه لا يزال يانعًا وفي محياه نضارة الشباب مع هيبة القُواد، والبسالةُ باديةٌ في عينيه وجبينه.
ولحظت لمياء وهي منزويةٌ أن الحسين بن جوهر لما وصل إلى جانب غرفتها التفت كأنه يلتمسُ أن يرى أحدًا وسمعت أباه يقول له بصوت منخفض: «لا شك أنك لو رأيتها ما تمالكت عن الإعجاب بها؛ لأنها جمعت بين مهابة الرجال ولطف النساء.»
فقال الحسين: «إني لا أراجعك في شيء تراه … وأنت أعلم مني وأوسع اختبارًا لكنني لا أثق بأبيها ولا أظنك تجهل ما في خاطره و…»
وكانا يتكلمان وهما ماشيان، فلم تسمعْ لمياء مِن حديثهما إلا نتفًا فهمت منها أنهما يتحادثان بشأن خطبتها له فوقعتْ في حيرةٍ وخافت أن يطلب منها الزواج به وهي عالقةُ القلب بسالم وإن كانت لا تعرف مقره.
وكانت لمياء مع بسالتها وقوة بدنها قويةَ العواطف إذا أحبت تمكَّن الحب من قلبها حتى يشغلها عن كل شاغل لا سيما وأن سالمًا أول شاب عرفتْه وأحبتْه.
ثم عادت فسمعت جوهرًا يخاطب ابنه وقد عادا من حيث أتيا وأتما الحديث، فأصغتْ لعلها تسمع تتمة الكلام فسمعت جوهرًا يقول: «إن معاملة هؤلاء بالحسنى أولى بنا وأقرب إلى جمع القلوب، وصاحب سجلماسة من أولى الأمراء بذلك …» ثم انقطع الحديث من البعد فأصبحت لمياء أشد رغبة في الاطلاع عليه فأصغت لسماعه عبثًا. فقعدت وهي تصلح خمارها وتعمل فكرتها وإذا هي تسمع لغطًا فيه صوتُ أبيها فأجفلت ثم رأت أباها وجوهرًا ماشيين وجوهر يحتفي بحمدون ويلاطفه. ومن قوله له: «لا ريب أن مولانا المعز يقدر صاحب سجلماسة حق قدره وطالما ذكرك في غيابك وأثنى على علو همتك.»
فقال حمدون: «نحن نفتخر أن نقوم بنصرة ابن فاطمة الزهراء.»