لمياء وأم الأمراء
وكانت أم الأمراء قد أُعجبت بلمياء كل الإعجاب وأحبتها من كل قلبها. وكذلك لمياء؛ فإنها أحبت أم الأمراء واستأنستْ بها كأنها تعرفها من أعوام وقد هان عليها أن تكاشفها بما يكنه قلبها وتستشيرها في أمرها وتستعينها في حاجتها. فذهبت تطلبها في غرفتها فلم تجدها فلقيت حاضنتها — وهي امرأة رومية الأصل استجلبها المعز من صقلية لما دخلت في حوزته في جملة نساء حملهن للخدمة وتدبير المنزل. وقد استلطفتها لمياء ورأت منها انعطافًا نحوها — فسألتها عن أم الأمراء فقالت: «قد ذهبت في شغل وستعود قريبًا.» ودعتها للقعود.
فقعدت وخاطِرها مشغولٌ بمسير والدها إلى المعز مع جوهر فأحبتْ أن تشغل نفسها ريثما تأتي أم الأمراء فقالت للحاضنة: «يا خالة يظهر لي مِن ملامحك أنك لست من أهل هذه البلاد …»
قالت: «صدقتِ؛ إني من صقلية يا سيدتي.»
قالت: «فأنت إذن رومية الأصل …»
قالت: «نعم وأفتخر بأني من نفس البلد الذي منه أكبر قواد أمير المؤمنين.»
فعلمت أنها تعني جوهرًا القائد، فقالت: «وهل القائد جوهر من صقلية أيضًا؟»
قالت: «نعم يا سيدتي، إنه مِن نفس ذلك البلد. ألا يحق لي أن أفتخر به؟»
قالت: «كيف لا؟ وهو موضعُ فَخْرِ أهل هذه الدولة. نصره الله على أعدائه.»
وهي في ذلك جاءت أم الأمراء وهي تمشي مشية النشاط لا تتثاقل تثاقُل أهل الترف فتراجعتْ الحاضنةُ وخرجت. ووقفت لمياء وهي تبتسم وتنظر إلى أم الأمراء نظر شاكر بهج فأجابتها تلك بمثل ذلك، وتناولتها بيدها على غير كلفة ودخلتْ بها إلى مخدعها الخصوصي وهي تقول: «أحب أن أراك تستأنسين بي وأن تعدي نفسك ابنة لي.»
فأكبتْ لمياء على يدها فقَبَّلَتْها ودموع الفرح تتساقط من عينيها، وقالت: «لقد غمرتني بفضلك يا سيدتي بما لم يعد في إمكاني القيام بشكره … كفى … إن ذلك فوق ما أستحقه أو يخطر ببالي.»
قالت وهي تقربها مِنْ وسادة في صدر الحجرة وتُقعدها بجانبها: «إنك أهلٌ لِأَكْثَرَ من ذلك يا لمياء ولا فضل لي إذا أحببتك؛ فإني لم أسمعْ أحدًا ذكرك إلا أُعجب بك وبكمالِك وهيبتِك … هذا قائدُنا جوهرٌ شديد الإعجاب بك وقد رغب في تقريب والدك من أمير المؤمنين إكرامًا لخاطرك. وقد جاء به الآن وسيدخلان إليه ولا شك أن المعز سيُحل أباك محلًّا رفيعًا؛ إكرامًا لقائده …» وسكتت وبلعت ريقها وهي تنظرُ إلى لمياء وتتأمل ملامحها وما يبدو منها فرأتْها مصغية لا يبدو على وجهها شيء من الاضطراب. فعادت إلى إتمام حديثها فقالت: «وبلغ من افتتان قائدنا بك أنه أحب أن يأخذك إليه ويجعلك ابنة له …»
فظهرت البغتة على لمياء وأطرقت حياءً، فابتدرتْها أم الأمراء قائلة: «لا أعني أن تصيري ابنة له دون أبيك بل هو ينوي أن يخطبك … إلى ابنه الحسين … هل رأيت هذا الشاب؟ لا ينبغي أن تخجلي مني … اتخذيني أُمًّا لك.»
فتصاعد الدمُ إلى وجنتَي لمياء، وأبرقت عيناها من التفكير وقالت: «أشكر لك هذا الإحسان يا سيدتي. نعم أني يتيمة الأم ولكنني في حضن أم تتمنى كل فتاة أن تكون أمها، نعم ينبغي لي أن أخاطبك بحرية، أما من جهة رؤية الحسين بن جوهر فإني لم أره إلا في هذا النهار عرضًا وهو مار في الحديقة مع أبيه …»
فقطعت أم الأمراء كلامها قائلة: «لم يكن مجيئُهُ عرضًا، ولكنه جاء عمدًا ليرى الفتاة التي حدثه أبوه عنها … طيب وماذا تضمرين بعد ذلك؟» فتنهَّدت لمياء وهمت بالكلام وأسكتها الحياء فأدركت أم الأمراء أنها تخفي شيئًا من قبيل الحب — والنساء يتفاهمن بلغات القلوب أسرع من تفاهُم الرجال — فقدمت لها مذبة كانت في يدها تروح بها على سبيل المؤانسة، وقالت لها: «لا ينبغي لك أن تستحي مني يا لمياء بعد ما لقيته من حبي لك. ويكفي دليلًا على هذا الحب أن أسعى في تزويجك بأحسن شاب في القيروان بعد أبناء الخليفة … وهؤلاء يا لمياء لم يبلغوا سن الزواج بعد.» وضحكت فازدادت لمياء خجلًا من هذا التلميح الممزوج بالتقريع على الكبرياء ولم تعد ترى باعثًا على الحياء فتناولت المذبة من يدها ثم أعادتها إليها بلطف وشكر، وقالت: «لا تظني يا سيدتي أني جاهلة حقيقة قدري أو أني لم أدرك مقدار فضلك في ما تعرضينه علي، فاسمحي لي أن أُصرح بحقيقة حالي. إني يا سيدتي مخطوبة …» وصبغ الحياء وجهها.
لم تستغرب أم الأمراء قولها؛ لأنها لحظت ذلك فيها من قبل لكنها تجاهلت لتسمع منها هذا التصريح فأجابتها وهي تبتسم: «من هو ذلك الخطيب السعيد الذي حظي بك وما اسمه؟»
فخجلت من هذا الإطراء وقالت: «إنه يا سيدتي شاب من أصدقاء والدي عرفته في سجلماسة وله عم كثير التودُّد لأسرتنا فخطبني إليه، واسمه سالم …»
فقالت: «أين هو؟»
فأجابت لمياء وهي تهز كتفيها إلى الأعلى إشارة الإنكار: «لا أدري أين هو ولكنني أعلم أنه كان في جملة مَن شهد المعركةَ الأخيرة التي قضي بها لأمير المؤمنين فقادوني ووالدي أسيرين. ولم أعلم أين ذهب سالم!»
فضحكت أم الأمراء وقالت: «يظهر أنك تحبينه كثيرًا حتى إنك مع شكك بوجوده لا تزالين ثابتة في وده.»
فتنهدت تنهدًا عميقًا وأطرقت وقد صبغ الحياءُ وجهها ولم تُجب.
فتشاغلت أم الأمراء بإصلاح ضفائر الشعر المرسلة على صدرها من الخمار وقالت: «قد يصحُّ ذلك، ولكن هل تحسبينه ثابتًا في حبك لا يلتفت إلى سواك؟ إن هؤلاء الرجال لا يُركن إليهم. ولا تظني الحسين بن قائدنا جوهر يتأتى العثور على مثله في جيل من الناس … ومع ذلك فالخاطر لك. وأنا إنما أردت خيرك؛ لأنني أحببتك و…» قالت ذلك وبان العتبُ في عينيها.