خليل زكي
كان اسمه يُطلق على الشر والعدوان بين أصدقاء العباسية. فرضته الجيرة فرضًا لا حيلة لنا فيه ولا اختيار، وأي اختلاف معه يعني معركة فلم يُفلت أحدنا من عدوانه. حتَّى اليوم في جبيني أثر من ضربة قُبقابه، اختلف رأيانا في حسين حجازي ومحمود مختار، أيهما أمهر في اللعب فقلت إنه حسين حجازي، وقال إنه محمود مختار، ثمَّ كانت ضربة القُبقاب فسال الدم على وجهي وجلبابي، وتشاجر مع جعفر خليل لاختلاف حول شارلي شابلن، وماكس لندر. وتضارب مع عيد منصور لاقتراضه منه قرشًا ومماطلته في رده، ولم يكن له كُفء في مجموعتنا سوى سيد شعير، ولما نشب بينهما القتال شهدنا معركة عادلة لأوَّل مرة، فسال الدَّم من أنفيهما معًا وتمزق جلبابهما، وتخيَّلنا ما ينتظره في البيت بسبب تَمَزُّق جلبابه فتضاعف سرورنا، ولم تُجدِ معه المقاطعة فسرعان ما يتناسى الخصام، ويُقبل علينا هاتفًا «صافية يا لبن» فإمَّا نقبله وإما يتجدد القتال. على أنه من الحق أن أعترف بأنه لم يخلُ من فائدة لنا، فقد كان قائدنا في المعارك التي تنشب بيننا وبين غلمان الأحياء القريبة خاصَّةً في أعقاب مباراة الكرة. وكان أبوه عطَّارًا في بين الجناين، وكان يعامله بفظاظة ضُرب بها المثل، وكثيرًا ما كان ينهال عليه ضربًا في الطريق على مرأى من أصحابه، كان يضربه بقسوة وحشية وبلا رحمة، وكان خليل يمقته مقتًا ويحلم ليل نهار بموته، وكان الأب مدمن أفيون، وكان خليل من أفشى سِره وشهَّر به في كلِّ مكان، وكان أسوأ مثال لرب الأسرة، ولكنه خصَّ خليل بلب كراهيته وشراسته، وكُنا نتابع تلك العلاقة باستغراب وفزع، وفسَّرها سرور عبد الباقي تفسيرًا دينيًّا فقال: إن الله سلَّط عليه أباه كما سلَّط الطوفان على آل نوح!
ولم يفلح خليل في دراسته الابتدائية، ولما تكرر سقوطه شغَّله أبوه في دُكانه وتنفَّسنا الصعداء كما يقولون، وخُيِّل إلينا أننا تخلَّصنا من شره، ولكنَّه لم يغب عنَّا أكثر من شهر واحد، وأقبل علينا ضاحكًا وهو يقول: عادت ريمة لعادتها القديمة.
فقلنا ونحن نُداري خيبتنا: خير إن شاء الله.
– طردني ابن المجنونة!
– من الدكان؟
– ومن البيت!
وجاءنا سيِّد شعير بالأخبار — كان أبوه تاجرًا ومن أصدقاء والد خليل — فأخبرنا بأنَّ خليل اعتدى على زبون بالضرب، وتكرَّرَت سرقاته لنقود الدُّكان حتى اضطرَّ الرجل إلى طرده، وَجِمْنا للأخبار، وأدركنا أنه سيتفرَّغ لنا بثقله وعناده، وبالفعل تحمَّلنا نفقاته في المقهى والرحلات، وعدا ذلك فلم ندرِ شيئًا عن أين يذهب بقية الأوقات ولا أين ينام ولا كيف يأكل. وفي تلك المرحلة من دراستنا الثانوية اتصل جعفر خليل بدنيا السينما فجرَّه معه ليعمل ضمن الكومبارس فدرَّت عليه قليلًا من النقود، وهناك التقى بسليمان مصطفى الراقص فحام حوله بغريزته النفعية. وما لبثت أن نشأت بينهما صداقة غريبة فسار في ركابه وانتفع إلى أقصى حد بماله. وكان جعفر خليل يحكي لنا مغامراته السينمائية تلك وهو يضحك من أعماق قلبه، حتى قال لنا يومًا: صاحبنا تمادى كعادته حتى ضاق به سليمان فطرده!
فهتفنا ونحن نتوقَّع شرًّا: طرده؟!
– وانقلب عليه يهدده ويتحرش به.
– وقع المسكين في شر أعماله!
– ولكنَّ سليمان صديق لقوم من الكبراء فما يدري صديقنا خليل إلا وهو يُساق إلى نقطة الشرطة، وهناك جُلد حتى بُحَّ صوته من الصراخ، ثمَّ أُفرج عنه بعد ما أُخذ عليه تعهُّد بألَّا يتعرض للشاب.
وعاد خليل يتسكع هنا وهناك، ثم اختفى زمنًا فلم نعد نسمع عنه خبرًا، وكان عيد منصور أوَّل من جاءنا عنه بنبأ إذ تسلل ذات ليلة إلى بيت دعارة سرية بالسكاكيني.
– فلمحته هناك يجلس مع المعلمة كأنه شريك!
ولكنَّ جعفر خليل هو الذي جاءنا بالخبر اليقين، كان أَحب مجموعتنا إليه مذ فتح له بابًا للزرق فأفضى إليه بسره. كان يذهب إلى أيِّ بيت دعارة كأنه زبون، ولمَّا يقضي وطره ويطالب بالنقود يهدِّد بإبلاغ الشرطة، فإذا استعانوا عليه بحامي البيت جندله، وما يلبث أن يفرض نفسه «حاميًا» للبيت، ولم تمر فترة طويلة حتى شمل بحمايته جميع بيوت الدعارة في منطقة السكاكيني، بذلك تحسَّنت أحواله واستقرت ميزانيته وعرف النَّعيم، وكانت حياة خطِرة مُهدَّدة، ولكنها كانت تناسبه كما كان يناسبها، وتدرَّج فيها في مدارج الرقي حتى وثب به نشاطه إلى بيوت الدعارة الفاخرة في وسط المدينة، وابتسم له الحظُّ فقدَّم خدمة (غراميَّة) لطبيب كبير، وابتسم له الحظ مرة أخرى عندما عُيِّن الطبيب عميدًا لكلية الطب فكافأه بإلحاقه بوظيفة إدارية بمستشفى قصر العيني. هكذا وجد خليل زكي نفسه موظفًا في مستشفى كبير، موظفًا يخطر تحت رعاية العميد، مرتبه بسيط حقًّا ولكن أرباحه خياليَّة. ورجع يزورنا في المقهى وهو بادي النعمة فيطلب النارجيلة والشاي الأخضر وينظر إلينا من فوق كما يجدر بموظف يجالس تلاميذ. وقد سألت جعفر خليل مرة: وماذا عن المهنة الأخرى؟
فقال ضاحكًا: الظاهر أنه لا فكرة لك عن أرباح المستشفى؟!
– إذن قطع علاقته بالبيوت؟
– طبعًا … عدا المختار من البيوت الرَّفيعة … الممتازة جدًّا … ومن بعيد لبعيد … وليؤدي خدمات نادرة للصفوة.
وكان على علاقة بقصَّاب غني من مدمني المخدرات فخطب منه كريمته. وكانت الوحيدة التي بقيت من ذرية الرَّجل بعد أن قُتل أخواها في المظاهرات التي اجتاحت البلاد في أوَّل عهد إسماعيل صدقي. وتزوج خليل من فتاة موعودة بميراث كبير عبارة عن أربع عمارات في شارع فاروق غير النقود السائلة، وعقب الزواج بعام واحد ضُبط القصَّاب الغني مُتلبسًا بتعاطي المخدر فقُبض عليه وحُكم عليه بالحبس عامًا، ولكن صحته لم تحتمل ذلك فمات في مستشفى السجن، وانتقلت إدارة الأملاك إلى يد خليل زكي، وعندما ترامت إلينا تلك الأخبار لم يشك أحد منا في أنَّ خليل هو الذي أوقع بحميه ليستولي على ثروته، وتسلَّطت علينا تلك الفكرة لحد الإيمان. قال عيد منصور فيما يشبه الحسد: صفقة تاريخية.
وقال جعفر خليل ضاحكًا: عليه العوض في العمارات الأربع.
وقال رضا حمادة: مسكينة، سنراها متسولة في الطريق عما قريب!
وجاءت الحرب وذهبت ولم أكن ألقاه إلا في النادر، ومنذ اجتمعنا في مأتم المرحوم جعفر خليل عام ١٩٥٠ لم أره، ولم يخطر ببالي حتى عام ١٩٧٠، كنتُ جالسًا بالتريانون في أوائل الخريف حين وقفت أمامي سيارة بويك سوداء، ورأيت وجهًا ينظر نحوي من نافذتها، وأقبل نحوي ضاحكًا فسلَّمنا وجلس، رغم كبره بدا بجسمه القصير مدمج التكوين قوي البنيان، كما بدا شرس السحنة همجي المنظر فلم ترفعه بذلته الشركسكين إلا قليلًا، وظل مُحتفظًا بطربوشه ليُخفي صلعة مشوهة بآثار خياطات جراح قديمة من مُخلَّفات معاركه، تذاكرنا أخبار الصحاب ثم قال: لعلَّك لا تعلم بأنني أصبحت من أهل الإسكندرية؟
– حقًّا؟
– آخرة العنقود طالبة بالآداب لم تجد في القاهرة مُتَّسعًا فقررت الإقامة في الإسكندرية، وابتعت فيلا في لوران، ستراها بنفسك!
فشكرته وسألته: ووظيفتك؟
– أُصبت منذ عامين بذبحة صدرية فاعتزلت الخدمة.
– سلامتك.
– صحتي عال ولكني لا أحترم كثيرًا الإرشادات الطبية.
وضحك حتى كشف عن أسنانه الملونة ثم قال: لي غير البنت التي حدَّثتك عنها ثلاثة مهندسين وطبيب!
فأبديت الإعجاب والاستحسان، فقال وهو يغرق في الضحك: عرفت كيف أكون أبًا!
ثم بنبرة أسف: وددت لو جاءوا مثلي لا يهتمون إلا بأنفسهم ومستقبلهم، ولكنهم دوَّخوني بمناقشاتهم السياسية.
وجعلت أختلس إليه النظرات متسائلًا، تُرى هل يثب إلى العدوان إذا تهيأت أسبابه؟ إلى أي مدًى تغيَّر حقًّا؟ وكيف ينظر اليوم إلى ماضيه؟ وبأي صورة يتصور أمام أبنائه؟ وهل يطيق أن يُعيد أحد أبنائه سيرته؟ وألا يعتبر ثلاثة مهندسين وطبيب كفَّارة عن أي ماضٍ أسود؟ وأي الحلَّينِ كان أفضل، أينجو من القانون رغم جرائمه ليهدي للوطن أربعة من العلماء أم كان يُقبض عليه لتستقر العدالة فوق عرشها؟! وتذكَّرت قول الأستاذ زهير كامل: «بِتُّ أعتقد أن الناس أوغاد لا أخلاق لهم، وأنه من الخير لهم أن يعترفوا بذلك، وأن يقيموا حياتهم المشتركة على دعامة من ذلك الاعتراف، وعلى ذلك تصبح المشكلة الأخلاقية الجديدة هي: كيف نكفل الصالح العام والسعادة البشرية في مجتمع من الأوغاد؟»