دُرِّيَّة سالِم
– اسمحي لي أن أُحيِّيكِ.
فارتسم ظل ابتسامة على شفتيها فقلت متشجعًا: غير معقول ألا نتبادل تحية بعد ما كان.
فخرجت عن صمتها قائلة: بعد ما كان؟
– بعد ما كان من عِشرة طويلة بين أعيننا.
فضحكت ببراءة وقالت: نقبل التحيَّة.
– هذه هي الخطوة الأولى.
– هل توجد خطوات أخرى؟
كانت تجيء بأبناء ثلاثة إلى المنتزه، فيستحم ثلاثتهم في البحر على حين تجلس هي مُنفردة في الكازينو تُراقبهم من النَّافذة، لفتَ نظري إليها وجه بشوش، وجسم فوَّار بالنضج الأنثوي. وعشقت في عينيها نظرة ودودًا كأنما خُلقت للاستقبال والترحيب. وسرعان ما شعرتُ بأنَّ ثمة دعوة رقيقة تُطالعني كالزهرة الناعمة وأن تجاهُلها فوق طاقة البشر. وتبادلنا كلمات عابرة فاتفقنا على موعد في حديقة البجعة.
وآمنتُ وأنا في الطريق إليها بأنَّها امرأة من نوع خاص، فلعلها أرملة أو مُطلَّقة. ولكنها قالت لي ببساطة: أنا متزوجة!
فقلت مأخوذًا: ولكنني أراكِ دائمًا منفردة.
– هو في بعثة قصيرة تنتهي هذا العام ١٩٦٠.
فوجمتُ فسألتني ضاحكة: أتخاف من النساء المتزوجات؟
– إني أُفكِّر …
فقاطعتي قائلة: فكَّر في إعداد مكان آمن نلتقي فيه في القاهرة!
فقلت بحماس ظاهري: اتفقنا.
– ولا تسِئْ بي الظن!
– وكيف ولِمَ؟
– لعلك تتساءل عما وراء امرأة لبَّت لك أول إشارة؟
وكان ذلك ما يبدو ببالي ولكنني قلتُ: لم أكن دونك استجابة وكنت البادئ!
فقالت برقة: من حقنا أن ننعم ببركة الصراحة.
تأملت كل شيء بوعي شأنَ مَن لم يقع تحت سيطرة مجنونة، وقلتُ لنفسي إني أُعجب بهذه المرأة وأرغب فيها ولكنني لن أحبها، وتهيَّأ لنا المكان في طريق سقارة، وتخيَّلت خلوة حمراء مشتعلة، ولكن ما إن أغلقتُ الباب وراءنا حتى وجدتني بحضرة امرأة جديدة، جلست مسترخية على كنبة، حتى التلفيعة الحريرية لم تنزعها من حول عنقها، تبدَّت هادئة مُستسلمة تطالعني بعينين ملؤهما الحنان، ورُحت أداعب أطرافها وألثم فاها فتبادلني عواطفي بابتسامة مُحبة قانعة، ولما قدَّمت لها كأسًا اعتذرت فلما دعوتها إلى الفراش همست في أُذني: ليتنا نمضي وقتنا في سعادة بريئة هادئة.
فقلت محتجًّا: لا أصدق.
فنهضت وهي تقول: ولكن لا تعتبره غاية في ذاته.
وبالرغم من أنَّ التلاقي كان جَذَّابًا إلا أني آمنت بأنه كان من الممكن لها حقًّا أن تمضي الوقت في سعادة بريئة هادئة. ثمة تناقض كبير بين المرأة اليسيرة المستجيبة لدى أول إشارة، وبين هذه المرأة الرقيقة الزاهدة، وقلتُ لها: أنتِ شخصية غريبة!
– حقًّا! .. لِمَ؟
ولمَّا تلكأت في الإجابة سألتني: هل تجد صحبتي عزيزة محببة؟
– بكل جدارة.
– هذا ما يهمني حقًّا.
وتتابعت اللقاءات أسبوعيًّا، بلا حُب حقيقي من ناحيتي، وبلا دافع يبرر الخيانة من ناحيتها، ولما رُفعت الكلفة بيننا قلت: أعترف لكِ بأنني — في كازينو المنتزه — توهَّمت أنكِ امرأة لعوب!
فسألتني باهتمام: ماذا تعني؟
– أعني معنًى بريئًا!
– سامحك الله!
فتناولت يدها بين يدي وقلت: إني أتساءل عما يدفعك إلى حضن رجل آخر؟
– آخر؟!
– أعني غير زوجك؟
فقالت وهي تسبل جفنيها في استياء: لذلك يضيق الناس بالمحققين!
ولكن باطراد اللقاءات استأنستها العادة فاستسلمت بحرية إلى تيار الذكريات الحميمة، وفي مناسبة ما قالت بصدق: تزوَّجت بعد قصة حب، حب عميق.
وكانت تعمل ممرضة وكان هو طبيب امتياز.
– تبادلنا حبًّا جميلًا كاملًا، وأصارحك بأنني استسلمت في أول لقاء.
– وتزوَّج منكِ؟
– كان شهمًا، كان مُحبًّا صادقًا.
– ما أجمل ذلك!
– وعشنا طويلًا كأسعد ما نكون فأنجبت له ثلاثة أولاد.
وسكتتْ فسألتُ: ثم ماذا؟
فأجابتْ كمن تفيق من حلم: لا شيء.
– كيف حالكما اليوم؟
– حال عاديَّة!
– ماذا تعنين؟
فقالت ضاحكة: كل ذلك الوقت الضائع على حساب حُبِّنا!
– ممكن نواصل لقاءاتنا بعد عودته؟
– لِمَ لا؟!
لم يعد يربطني بها إلا المُجاملة ثم العادة. وازدادت هي رقة ومودة وحنانًا حتى قالت لي يومًا: لا أتصور حياتي بدونك.
فوجدت أنَّ أَسلم سبيل أن أُجيبها بقبلة طويلة، ولكنها تساءلت في عناد: وأنت؟
– مثلك وأكثر.
– لم تقُل لي صراحة إنك تحبني.
فقلت: لكنِّي أحِبُّك بالفعل وهو الأهم.
ورجع الدكتور صادق عبد الحميد من بعثته القصيرة. تحدَّثتْ عنه بموضوعية كأنه ظاهرة لا تربطها بها علاقة حميمة، ولكن باحترام لا مزيد عليه. وفي ذلك التاريخ كنت بدأت أتردد على صالون الأستاذ جاد أبو العلا، وهناك التقيت بالدكتور صادق عبد الحميد! وقصَّ علينا جاد أبو العلا كيف زار الدكتور في استشارة طبية، وكيف توثقت العلاقة بينه وبين الدكتور، وبدأت بيننا صداقة روحية نادرة، فقدَّمته بدوري إلى مجلس سالم جبر، وزُهير كامل، وصالون الدكتور ماهر عبد الكريم، وأدهشني أن أرى فيه رجلًا يماثل دُرِّية في السن، أو لعله يصغرها ببضع سنوات، وسيما ذكيًّا ذا طُموح روحي لا حَدَّ له. هكذا بدأت صداقتنا بعد توطد علاقتي بزوجته بأربعة أشهر! وضايقني ذلك وأزعجني لحد العذاب، ولم تتوقع درية ذلك فذُهلت له، ولاحظت دون جهد ارتباكي وقلقي، وجو الكآبة الذي خيَّم بثقله فوق لقاءاتنا فخنقها. وبدا أن تيار الحياة يمضي إلى زاوية مسدودة ليشهد موته، قالت لي بِتوسُّل: انْسَ تمامًا أنه زوجي، ألم يكن من المحتمل ألا أشير بكلمة إلى هويته أو اسمه؟
فقلت بارتباك: لا فائدة من افتراض احتمالات لا أصل لها.
– يجب أن نحافظ على علاقاتنا فهي أهم من كل شيء.
فقلت بحزن صادق: إني أتعذب.
فقالت بانفعال غير معهود: لعلَّه لو علِم بعلاقتنا ما اكترث لها!
فنظرت إليها بذهول غير مصدق فقالت: إنه لا يحبني، لم يعد يُحبني منذ ثلاثة أعوام أو أكثر، صدقني.
– إني أصدقك وأنا آسف.
– وهو يعاشر امرأة أخرى، ولولا تفانيه في حب أولاده لهجرنا ليتزوج منها!
– إني آسف يا درية.
– ماذا تعني بقولك آسف؟
– آسف لحالك، ولحالي التي لا أُحسد عليها.
– لو كنت تحبني لما شعرت بأسف على الإطلاق!
– الواقع أني لا أطيق ذلك الموقف بحال.
أشاحت بوجهها عني محمرة العينين وتمتمت: أنت لم تكد تعرفه، هل تنشأ الصداقة من العدم؟
ثم بحزن شديد: والحب أقوى من الصداقة، ولكن الحقيقة أنك لا تحبني!
لم أجد ما أقوله فصمتُّ، وبالصمت أُسدل الستار على علاقتنا الحزينة المفتعلة. وعندما غادرنا عشَّنا تأملت شخصها الناضج الذي يُعاني أحرج فترة من العمر تحت وطأة الهجران والخيبة، فتقلَّص قلبي ألمًا وحزنًا، ولفحنا في الخارج هواء بارد كلسع السياط، في ظلمة الليل.