زهران حَسُّونَة
ثمة أصحاب من نوع خاص، أصحاب يرتبطون بمكان ما لا يتجاوزونه، حلا لي يومًا أن أدعوهم أصحاب المقاهي. في المقهى نتصافح بحرارة ونتجالس ونتسامر ثم يذهب كلٌّ إلى سبيله. ومنهم من يختص بصفة تستحق التأمل فيترك أثرًا قبل أن يذوب في النسيان. من أولئك زهران حسونة. عرفته في مقهى ركس في أيام الحرب العظمى الثانية، وكنتُ أتردد عليه من حين لآخر بصحبة جعفر خليل ورضا حمادة، وشعراوي الفحَّام، وعيد منصور، كان يزور المقهى مع آخرين من صحبه في يوم الأحد، وكان بدينًا متوسط القامة كبير الرأس جدًّا كأن به عاهة، وعن طريق النرد تعرفنا بهم ثم صاحبناهم، قال يُعرِّفنا بنفسه: كنتُ موظفًا بوزارة التجارة والصناعة، ثم سوَّيت معاشي لأشتغل في الأعمال التجارية.
وكان إذا حضر وقت الصلاة قام هو وصحبه فانتحوا جانبًا فيما وراء البار، وأدوا الصلاة جماعة وهو يؤمهم. وهو يؤمهم لأنه الوحيد بينهم الذي أدى فريضة الحج. والحق أن الدين كان يشغل حيزًا من أحاديثهم لا يُستهان به، وهي تفصح عادةً عن إيمان بسيط صادق، تختلط فيه العقيدة بالخرافة بالأساطير الشعبية، ولكن لا شك في صدقه، وكانت صحبتهم ممتعة، وكانوا كرماء، وفيهم شهامة أولاد البلد، غير أنَّ عيد منصور قال لنا يومًا: جئتُ لكم بمعلومات طريفة عن الحاج زهران حسونة.
فسألناه عنها فقال: لم يستقل ولكنَّه اضطر إلى الاستقالة لسوء سمعته.
– أي نوع من سوء السمعة؟
– الرشوة!
وعيد منصور يسُرُّه دائمًا أن يثبت أن جميع الناس لا خلاق لهم مثله! قال وهو يضحك: إني أشك في جميع الناس، ولكني أشك بصفة خاصة في المتدينين!
فقال رضا حمادة: ولكن ليس كل مُتدين منافقًا!
فقال عيد منصور وهو يضحك أكثر: النفاق درجة لا يرتقي إليها عم زهران حسونة!
فضحكنا فراح يُفَسِّر قوله: النِّفاق أن تبطن الكفر، وتعلن الإيمان، ولكنه أغبى من أن يكون كافرًا، أنا لا أشك في إيمانه.
– إذن لعله تورَّط في الرشوة تحت ظروف ضاغطة!
– لعله.
ولاحظنا أن زهران حسُّونة يعمل بهمة في السوق السوداء، في تجارة الثقاب والويسكي، ثم اشتغل في المواد التموينية، ولم يكن يُخْفي ذلك بل كان يُبْدي استعداده لتقديم الخدمات لنا، فلم أملك أن أسأله: ألا ترى يا حاج في العمل في السوق السوداء ما يناقض ورعك؟
فأجابني بثقة: للدنيا أسلوب في المعاملة وللآخرة أسلوب آخر!
– ولكنَّ الله لا يمكن أن يرضى عن تجويع الفقراء.
فقال باطمئنان: إني أُكفِّر بالصلاة والصوم والزَّكاة فماذا تريد؟
فقلت لأصحابي بعد انصرافه: الرجل يرتكب الإثم عن عِلْم لا عن جهل أو نفاق!
فقال عيد منصور: ويثرى ثم يلجأ إلى الدين ليكفِّر، فتتحول سرقاته بقدرة قادرة إلى ربح حلال، الدين عند عم زهران هو المشجع الحقيقي على ارتكاب كافة الآثام!
ثم وهو يضحك عاليًا: ولذلك فهو يسرق قوت الفقراء ويمضي ووجهه ينوَّر بالإيمان والطمأنينة!
وكنتُ أتابعهم وهم يُصلُّون في المقهى بعين متأملة ساخرة، يركعون ويسجدون ويسدلون جفونهم خشوعًا وامتثالًا، وأتذكَّر كم أنهم أوغاد لصوص لا يحق لهم أن يبقوا ساعة واحدة فوق سطح الأرض، ولم أجد جدوى في مناقشاته، فدائمًا أراه مطمئنًا واثقًا من نفسه، يؤمن بالشر كما يؤمن بالخير، ويُطيع الشيطان كما يُطيع الله، ويتردد بينهما تردد التاجر الماهر في السوق الحُرَّة الذي يحرص في النهاية على أن يزيد دخله على منصرفه. وجعلني ذلك أتلمس وجوه الأعذار لأوغاد مثل خليل زكي، وسيد شعير، بل وعيد منصور، ممن لم يتعاملوا معاملة جادة مع دين فانطلقوا في الحياة بوحي غرائزهم وعقولهم العملية الجافة، خلال أجواء من الصراع العنيف القاسي. ولذلك أيضًا ترديت كثيرًا فريسة لكآبة روحية مُعتمة كدت أرفض تحت وطأتها التجربة الإنسانية كلها، وكانت تلك المشكلة مدار أحاديث لا تنتهي بيننا، قال رضا حمادة: الظاهر أنه لا يوجد تاجر شريف!
فقال عيد منصور: لا يوجد إنسان شريف.
فتساءلت: ماذا عن دور الدين؟
وتساءل عيد منصور: لِمَ نتمسك بالأخلاق ما دامت تقود إلى الفشل؟
وعاشت تلك المشكلة معي أعوامًا، وأعوامًا؛ حتى ناقشتها في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، بدءًا من نقد الواقع المصري، وانتهاءً إلى دراسة الخير والشر في ذروتها الفلسفية، ويدعونا ذلك إلى تذكر الدكتور إبراهيم عقل وفلسفته في المثل الأعلى، وسلوكه المناقض لفلسفته! وأذكر بالمثل قول الأستاذ سالم جبر: مهما يكن من أمر فلا يمكن تجاهل المرحلة التي قطعها الإنسان من الغابة إلى القمر!
أو قول رضا حمادة: توجد سجايا قيِّمة جديرة باسترداد الثقة، مثل تفاني الرجل في خدمة أسرته، مثل الذكاء الوقَّاد المولع بالحقيقة، مثل بعض مواقف البطولة النادرة.
وقوله أيضًا: لا تغالِ في المثالية وإلا مُتَّ تقزُّزًا!
وأثرى زهران حسونة في أثناء الحرب ثراءً فاحشًا فارتفع إلى مرتبة أصحاب الملايين. وأسَّس شركة للمقاولات عام ١٩٤٥ ولكني أغضيت عن التشهير به مذ قُتل ابنه الطالب بكلية الهندسة في معركة القنال عقب إلغاء معاهدة ١٩٣٦. سار الرجل وراء النعش معتمدًا على ذراعي صديقين محمر العينين شارد اللب، واقتصرت علاقتنا وقتذاك على تبادل المجاملات في المناسبات، ولكن عيد منصور وكَّد لي أنه ما زال يجمع النقود ويؤدي الصلاة، وكان أوثقنا صلة به بحكم أعماله التجارية. واستمر ازدهاره المالي في صعود، وأقام في قصر المعادي، وتزوج في الخمسين من فتاة في العشرين بحجة زهد زوجته الأولى في المسرات الزوجية عقب وفاة بكريها، ولكن ظل الحج نزهته الروحية كل عام، وازداد نشاطه بعد الثورة. لم يكن من المُلاك الزراعيين، ولكن شركته أُمِّمت فيما أُمِّم من شركات عام ١٩٦١، وهكذا تقوض ذلك البناء الشامخ الذي نُحتت أحجاره من الذكاء والغش والإرادة والانتهازية والإيمان والفجور، وكان رضا حمادة يُعلق على الأحداث بامتعاض شديد، مؤكدًا موقفه الثابت من الثورة، فقلت له: ولكنك عرفت الرجل تمامًا.
فقال: ولو، إنها مسألة مبدأ.
فقلت: ليست مسألة مبدأ ولا رجل ولكنه نظام بارك ذلك كله.
فقال بمرارة: انتظر حتى يتبين لك النظام الجديد، لقد كان زهران حسونة في البدء موظفًا كهؤلاء الموظفين الذين انقضُّوا على شركته ليديروها!
ولمَّا أفاق الحاج زهران من الصدمة باع قصره، ففتح مقهى في مصر الجديدة، وضمِن لنفسه مستوى من المعيشة لا بأس به، وهو يتظاهر دائمًا أمامنا بالشجاعة ورباطة الجأش، ويُعلق على الأحوال بعبارات ذات مغزًى ديني مثل الحمد لله، والأمر لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، له في ذلك حكمة، ويذهب به الحذر أحيانًا إلى الثناء على القرار الذي جرَّدَه من ثروته فيقول: عدالة علينا أن نقبلها على العين والرأس.
ولكن تفضحه أحيانًا ومضات فرح للكوارث لا يُحسن مُدَارَاتَها، مثل الأزمة الاقتصادية وورطة اليمن، وأخيرًا ٥ يونيو الذي دار رأسه فيه بنشوة النصر! لقد لاطمتني في ذلك اليوم المشئوم تيارات متناقضة كاد يختل لها عقلي، ولعله مما زاد إكباري لرضا حمادة أنَّ المأساة قصمت ظهره، كما قصمت ظهرنا، وأنه نسي في ذلك اليوم كلَّ شيء إلا حبه العنيد لوطنه.