زهير كامِل
عندما التحقنا بالجامعة كان مُعيدًا بقسم اللغة العربية تمهيدًا لإرساله في بعثة إلى فرنسا. وسمعنا عنه ثناءً طيبًا من الدكتورين ماهر عبد الكريم وإبراهيم عقل، فقال الأخير عنه مرَّة: إنه مثال للفلَّاح إذا نبغ.
وحدثني رضا حمادة عنه فقال: عرفته في بيت الأمة خلال اجتماعات الطلبة، وهو من سمنود، ويعرف مصطفى النَّحاس معرفة شخصية.
وسافر في البعثة عام ١٩٣٢ ثم رجع دكتورًا عام ١٩٣٨ أو ١٩٣٩ فعُيِّن مدرِّس (ب) بهيئة التدريس الجامعيَّة. وفيما بين تاريخ تعيينه وعام ١٩٥٠ تركَّز نشاطه الفكري في الجامعة والتأليف، فأصدر كتبه المعروفة عن نظريَّات النقد العامة، ونُقَّاد من الشرق والغرب، ودراساته عن شكسبير، وراسين، وبودلير، وإليوت، والشعراء الأندلسيين، وكان يتردد على صالون الدكتور ماهر عبد الكريم؛ فتوطدت بيننا صداقة متينة. وتزَوَّج في أثناء الحرب من فتاة يونانية كانت تعمل في محل فينوس فأنجب منها ولدين وبنتًا، وكان أستاذًا جامعيًّا بالمعنى الدقيق، يُكرِّس حياته للبحوث الأكاديمية، ولا حديث له خارج مضامينها، فلم أعرف له اهتمامًا عامًّا آخر. وحاولتُ أحيانًا أن أستشف فيه الطالب الوفدي القديم فلم أُفلح، ولكنه بخلاف الكثيرين كان يتمَنَّى النصر للحلفاء، ربما حبًّا في الديمقراطية كما قال، أو ميلًا مع عواطف زوجته، أو تعصبًا لفرنسا التي عشقها من أعماق قلبه، وفي عام ١٩٥٠ فاجأنا بما لم نتوقع أبدًا، فرشَّح نفسه على مبادئ الوفد في إحدى دوائر القاهرة، وفاز بأغلبية ساحقة، وأثار سلوكه تساؤلات كثيرة، ولكن الدكتور ماهر عبد الكريم قال رغم تحفُّظه الشديد: إنه قرار يستحق الأسف.
وقال لي رضا حمادة: لعَلَّه يحلم بوزارة المعارف.
ولقد قد يطول الزَّمن حتى يتحقق الحلم، فكيف يواجه أعباء الحياة بمعاش صغير ومُكافأة النيابة التي لا تتجاوز الخمسين الجنيه؟ قال رضا حمادة: ستخبرنا الأيام!
وأخبرتنا الأيام بأسرع مِمَّا تصورنا، فظهرت مقالاته السياسية في الجرائد الوفدية، بل برز ككاتب سياسي من الدرجة الأولى، إلى مقالات في النقد في المجلات الأسبوعية. وحدث أن كان لزهران حسونة أعمال في الحكومة تحتاج في إنجازها إلى واسطة فطلب منَّا أن نُقدِّمه إلى صديقنا النائب ففعلنا، ومن يومها توطَّدت بين الاثنين علاقة متينة. ثمَّ مضت تترامى إلينا همسات عن تصرفات الدكتور زهير كامل غريبة بل مريبة، وقد سألت رضا حمادة يومًا: ما رأيك فيما يُقال عن زهير كامل؟
فأجابني بامتعاض شديد: يُقال إنَّه أصبح سمسار وظائف.
ثم وهو يهز رأسه في أسف: ويُقال إنه يقدم خدمات لزهران حسونة وإنه ينال عن خدماته مكافآت سخية.
– وهل صحيح ما يُقال؟
– نعم للأسف الشديد، وإني أتساءل أحيانًا والحزن يُمرِّر ريقي أي فارق هناك بين الوفد وبين غيره من الأحزاب؟!
– ولكن هل تتصور أنَّ زهير كامل نبذ الأستاذية في الجامعة ليُمارس النهب والفساد؟
– إني أتصوره وغْدًا من البدء غير أنَّه كان يتحين فرصة لاستغلال مواهبه حتى وجدها في السياسة.
وجلسنا يومًا نتبادل الأحزان على صديقنا النابغة وحزبنا العتيد، ولمَّا أُقيلت حكومة الوفد عقب حريق القاهرة حاول الدكتور زهير الرجوع إلى الجامعة، ولكنه لم يُفلح، وواصل حياته ككاتب سياسي، وناقد، ولكنه بات ينظر إلى المستقبل بقلق، وبخاصة وأنه كان اعتاد مستوى من المعيشة الرفيعة، واجتمعنا يومًا عند الأستاذ سالم جبر، وكان مُنفعلًا ويقول: ما هذا الذي يحدث بالوطن؟ .. الملك جُن، وكل شيء ينهار!
فقال الدكتور زهير كامل: ما أشبه حالنا السياسي بالدكتور إبراهيم عقل الذي بدأ باحثًا نابهًا، وانتهى بالدروشة!
وقال رضا حمادة: أصبح الوفد كزعيمه فهو شيخ هرم طيب يزحف عليه العجز والتدهور.
فقال سالم جبر: لا يمكن أن تدوم الحالُ على هذا المنوال فماذا عن الغد؟
فقال زهير كامل: ما زال الوفدُ أفضل الجميع وسيضطر الملك إلى استدعائه عاجلًا اتقاءً لانفجار ثورة شاملة!
فقال سالم جبر: الثورة أفضل من الوفد.
فقال رضا حمادة: وفي الانتظار الإخوان والشيوعيون.
فقال زهير كامل بحدة: لا أغلبيَّة لهؤلاء أو أولئك.
فقال سالم جبر: الوطن غير مؤهل للشيوعية ولا عقيدة هناك جديرة باستيعاب الشباب المتفتت بين الثورة والانحلال!
وقامت ثورة يوليو مُتحدية كل تخمين. وسرعان ما وجد زهير كامل نفسه في مأزق لم يعمل له حسابًا، أُغلقت دونه أبواب السياسة والجامعة، وتحيَّر ماذا يفعل وماذا يكتب. ولمَّا اتجهت السياسة العامة نحو تصفية الأحزاب، وتركز الهجوم عليها بصفة عامة، وعلى الوفد منها بصفة خاصة، باعتباره القاعدة الشعبية القديمة؛ إذ بالدكتور يرمينا بالمفاجأة الثانية في حياته، فانقضَّ بمقالات من نار على الوفد مُرجِعًا إلى فساده كلَّ فساد نخر في عظام الوطن. وأثارت المقالات عاصفة من الغضب المكتوم في صدور الوفديين، ولكن أحدًا لم يستطع أن يُقلل من خطورتها لصدورها من رجل له تاريخه الجامعي الوقور، فضلًا عن اشتراكه في برلمان الوفد الأخير، وتعيَّن صحفيًّا في إحدى الجرائد الكبرى، وسرعان ما اعتُبر قلمه من أقلام الثورة، كما عُهد إليه بتحرير صفحتها الأدبيَّة فقاد نقد الأدب المعاصر. وبسبب مسئوليَّاته الجديدة، ورُبما خجلًا من انقلابه المفاجئ تجنب إلى حين التردد على صالون الدكتور ماهر عبد الكريم. وتساءل الدكتور ماهر: ألم يكن الأفضل له أن يبقى في الجامعة؟
وتساءل الأستاذ رضا حمادة: أرأيت ماذا فعل الوغد بنفسه؟
فقلت: لعلَّ عُذره أنه فعل ما فعل لحساب قوَّة وطنية لا شك في وطنيتها.
وعاد زهير كامل للظهور في مجالسه المُفضلة؛ كصالون الدكتور ماهر عبد الكريم، ومكتب سالم جبر، فعدنا للتلاقي المنتظم كما كنا، وعاودت الاطلاع على فؤاده. قال: لم تكن ثمة جدوى من المُقاومة، ولِمَ أقاوم؟
وقال أيضًا: كنتُ على وشك الإفلاس، ولكن لم يكن المال وحده هو الدافع فأنا مطمئن الضمير!
فقلت: إذن فأنت تُؤمن بثورة يوليو؟
فقال وهو يتفحَّصُّني بعينيه الذكيتين: إنَّها حركة مُبَاركة منعت بقوَّتها الذاتية اشتعال ثورة لاحت مخالبها في الأفق!
– يا لها من فكرة!
– وأعترف لك بأنني لست ثوريًّا، فكما لا أوافق على رجعية الإخوان؛ فإني لا أوافق أيضًا على ثورية الشيوعيين، وأومن بالإصلاح الرَّزين الذي نتأثَّر خطاه، وهو طريق الوفد أيضًا لو قُيِّض لجناح شبابه أن ينتصر.
ولكنِّي لاحظتُ بدقة المُراقبة أنَّ عواطفه لم تنسجم تمامًا مع أفكاره، وأنَّ تحمُّسه الظاهر كان لتبرير انقلابه قبل كل شيء، وعلى مدى الأيام اضطر إلى أن يعترف لي قليلًا: ألم يكن الأفضل أن يتم ما تم بيد انتفاضة شعبية بقيادة شباب الوفد!
فقلت: المهم أن يتم ما تم.
فقال بعد تأمل: ولكنَّ الإنسان لا يستطيع التخلص من عقليته الخاصة، ولذلك فقُل على الحرية السلام!
وكان الأستاذ رضا حمادة مُعتقلًا في ذلك الوقت، فجاء ذكره فقال زهير: ربنا معه.
فقلت بثقة: إني أعتقد ببراءته.
– لِمَ؟
– إني مِن أعلم الناس بنقاء أخلاقه.
تُرى أضايقه قولي؟ .. على أي حال قال: على ذلك الجيل من السياسيين أن يتخذ من أستاذنا القديم إبراهيم عقل مثلًا يُحتذى.
فدُهشت لقوله وقلت: الدكتور إبراهيم عقل يُعاني حال دروشة كاملة، وقد لمست ذلك بنفسي في لقاء عابر معه بحي سيدنا الحسين!
– هذا ما أعنيه تمامًا، فالدروشة هنا أسلوب لمواجهة الكوليرا التي قضت على ابنيه.
– ماذا تعني؟
– أعني إذا صادفتك كارثة يستحيل التغلب عليها فعليك بالدروشة، أي نوع من الدروشة، أمَّا المُقاومة غير المُجدية فترمي بك إلى المعتقل!
وزُهير كامل النَّاقد عانى انقلابًا من نوع آخر في نفس الوقت، فبكلِّ استهانة مضى يتاجر بالنقد. مضى يتقبل الهدايا والنقود، ويُقيِّم الفن والفنانين تبعًا لذلك، وبازدهار الحركة المسرحية والإنتاج السينمائي تضاعفت أرباحُه فشيَّد فيلته الأنيقة بالدقي واقتنى المارسيدس، وبخلاف اعتداله القديم أفرط في الطعام والشراب، فزاد وزنه لدرجة أصبح من المتعذر معها التعرف عليه من أول نظرة. لم يبقَ من مزاياه القديمة إلا ثقافته الواسعة، وذوقه المدرَّب في شتى ألوان الفن، ورغم الثورية التي اتخذها مهنة كان إذا ذُكر الوفد تجلى الحنين في عينيه، بل علمت أنه حمَّل صديقًا رسالة خاصة إلى مصطفى النَّحاس يعتذر له فيها عَمَّا بدر منه في حقه، ويشرح له الظروف القاسية التي اكتنفت قراره. ولما أعلنت ثورة يوليو عن سياستها الاشتراكية توثب بهمته المعروفة لدراسة الاشتراكية ليؤيدها عن علم، ويحتفظ لنفسه بمستواه ككاتب من كُتَّابها الأول. وفي أعوام قلائل متتابعة ترجم أربعة كتب عن الاشتراكية، ثم أصدر في النهاية مؤلفه المعروف «اشتراكية هذا الوطن». وفي هذه الناحية بالذات يئس من إقناعي بإخلاصه لسابق علمي بديمقراطيته الليبرالية، وقد سألته مرة ضاحكًا: كيف انقلبت اشتراكيًّا بهذه السرعة الجنونية؟
أجابني ضاحكًا أيضًا: الناس على دين أوطانهم!
– أتعتقد أنَّهم يُصدقونك؟
– لم يعد أحدٌ يُصدق أحدًا.
ثم قال والضحك يُعاوده: المهم هو ما تقول وما تفعل!
واجتاحته موجة من الضحك ثم قال: يتساءلون كثيرًا عن سر ازدهار المسرح، أتدري ما هو سر ذلك؟ السر أننا صرنا جميعًا ممثلين!
فقلت: وبالرغم من ذلك فقد حقق هذا العهد من الخير ما لم يُحققه عهد سابق بلا استثناء!
فقال وهو يتنهد: وأصبح لكل شيء قيمة إلا الإنسان!
فتساءلت بمرارة شديدة: متى كان للإنسان قيمة في بلادنا؟! على الأقل فهو يُحرر اليوم من عبوديته الاقتصادية، والطبقية، والعنصرية، وستجيء الخطوة الذاتية عندما يستحقها بجدارة!
وقد بلغ قمَّة سقوطه الأدبي عندما ألف رسالة صغيرة عن أدب «جاد أبو العلا»! وكان جاد أبو العلا سعى إلى التعرُّف به حوالي عام ١٩٦٠ نفس العام الذي تعرَّف بي فيه. ورغم ذلك كانت الرسالة مفاجأة لي لم أتوقعها بحال. ومهما يكن الثمن الذي قبضه — قيل إنه طاقم تُحف عربية وألف جنيه — فقد دلَّ على أن صاحبي تمرَّغ في السقوط حتى فقد إحساس الحياء الذي يصاحبه، وصدق عبده البسيوني عندما قال لي يومًا في حديث جرى لمناسبة الرسالة المذكورة: هذا كتاب لا يجرؤ على تأليفه إلا مومس!
وأوشك زهير كامل أن يُعلن ارتداده في ظرفين لولا حُسن حظه، أوَّلهما الاعتداء الثلاثي عام ١٩٥٦ والآخر النكسة عام ١٩٦٧، ففي كل مرة خُيِّل إليه أن الثورة صفيت وانتهت فتوثب للعمل لمستقبله من جديد، ووضح لي في المرتين مدى ما ينطوي عليه من انتهازية وزيف، بالرَّغم من أنه يدين للثورة بجاهه وماله، وقارنت بينه وبين رضا حمادة، فكلاهما يتمتع بثقافة إنسانية عميقة وشاملة، وكلاهما من الجيل السياسي السابق الذي أجهضته الثورة، وكلاهما ينتمي إلى عقيدة مُعادية للاشتراكية، ولكنَّ أحدهما يحتوي على طوية عفنة تتقزز منها الحشرات، والآخر تستقر في أعماقه روح نبيل يستحق الفرد من أجله أن يُقدس ويُعبد. وفي العام التالي للنكسة دهمته أحداث في صميم أسرته لم تخطر له ببال؛ إذ صمم ابناه المهندسان على الهجرة إلى كندا! ولم يستطع أن يثنيهما عن عزمهما، أمَّا أمهما فمالت إلى تشجيعهما، وما لبث الشابان أن حققا رغبتهما بالفعل، وحزِن زهير لذلك حزنًا شديدًا وراح يقول لي: أنا فلَّاح، ومن طبيعة الفلاح حبه لالتصاق أبنائه به.
فسألته عمَّا دعاهما للهجرة فقال: الأمل في مستقبل أفضل.
وهَزَّ منكبيه في أسف وقال: لم يعد للوطن قيمة، تركاه في محنة قاسية، عن عدم اكتراث أو يأس، وجريًا وراء الأمل الخلاب.
واجتاحه غضب مفاجئ فقال: عقلي معهما، ولكن قلبي يتوجَّع.
وأمَّا كريمته فقد أحبَّت شابًّا يونانيًّا، وهي في رحلة إلى اليونان بصحبة أمها. وبكل بساطة تزوَّجت منه هازئة بكافة التقاليد، وجعلت زوجته تتردد بين القاهرة وأثينا حتى استقرت بصفة نهائية في موطنها الأصلي قبيل انقضاء العام. ووجد الدكتور زهير كامل نفسه وحيدًا في الستين، مريضًا بالسُّكَّر والضغط .. وهو في ذلك يشبه رضا حمادة غير أن هذا خلق نهايته بنفسه متجاوزًا كافة أحزانه، أمَّا زهير فعانى مرارة الوحدة والسأم والهجر، ويومًا سألني عبده البسيوني في صالون جاد أبو العلا: هل تعرف نعمات عارف؟
فأجبت بالنفي فقال: هي صحفيَّة تحت التمرين.
– وماذا يعنيني من ذلك؟
فقال ضاحكًا: إنها عشيقة الدكتور زهير كامل!
– زهير كامل! إنه شيخ في الستين أو أكثر.
– ستسمع عن زواجهما في القريب.
وسمعت، وعرفت العروس وهي جميلة في العشرين، وركن الأستاذ معها إلى اللهو والراحة فلم يمسك بالقلم إلا لكتابة يوميَّاته الأسبوعية في الموضوعات اليومية العامَّة، مُقلعًا عن مراجعة الكتب والمراجع، ولكنَّ مرضه استفحل حتى أقعده بصفة نهائية في الفراش، فأطفأ الشعلة المضيئة الوحيدة في حياته المُعتمة، شعلة العقل. وما زلنا نزوره من حين لآخر، فتدور المناقشات في حجرة نومه، ويُشارك هو فيها بسمعه أو ببضع عبارات موجزة فقدت إشاراتها الذكية وأفكارها الموحية، لتُذكِّرنا بأن لكل شيء نهاية.