سُعَاد وَهبي
تلك الزَّميلة الجامعيَّة التي عاشت في كُلِّيتِنَا عامًا واحدًا، ولكنها بهرت خيالنا عهدًا طويلًا، كانت الزميلات عام ١٩٣٠ قلة لا يتجاوزن العشر عدًّا، وكان يغلب عليهن طابع الحريم، يحتشمن في الثياب، ويتجنبن الزينة، ويجلسن في الصف الأول من قاعة المحاضرات وحدهن كأنهن بحجرة الحريم بالترام. لا نتبادل تحيَّة ولا كلمة وإذا دعت ضرورة إلى طرح سؤال أو استعارة كراسة، تم ذلك في حذر وحياء، ولا يمُرُّ بسلام فسرعان ما يجذب الأنظار، ويستثير القيل والقال، ويشن حملة من التعليقات. في ذلك الجو المُتزمت المكبوت تألقت سعاد وهبي كأنَّها نجم هبط علينا من الفضاء. كانت أجمل الفتيات وأطولهن وأحظاهن بنضج الجسد الأنثوي، ولم تقنع بذلك فلوَّنت بخفة الوجنتين والشفتين، وضيقت الفستان حتى نطق، وتبخترت في مشيتها إذا مشت، وكانت تتعمد أن تدخل القاعة مُتأخِّرة بعد أن نستقرَّ في مجالسنا ويتهيَّأ الأستاذ لإلقاء محاضرته، ثم تُهرول كالمعتذرة فيرتج ثدياها النافران فتشتعل الفتنة في الصفوف، وتندُّ عنها همهمات كطنين النحل. وعُرف اسمها وجرى على كل لسان، ونحتت له الأوصاف الأسماء فهي «أبلة سعاد» و«كليَّة سعاد» و«بانت سعاد». وكانت بخلاف زميلاتها غاية في الجرأة، تواجهنا بثقة لا حدَّ لها، ولا تخفي إعجابها بنفسها، وتناقش الأساتذة بصوت يسمعه الجميع، وبالجملة تحدَّت الزمان والمكان، وقال محمود درويش: إنها غانية لا طالبة.
وقال لي مرة جعفر خليل: ترى كيف كانت وهي تلميذة مُراهقة بالمدرسة الثانوية؟ فاتنا نصف عمرنا.
فقلت: لم تلتحق بالكليَّة إلا لاصطياد عريس!
– أو عشيق!
وجرت عنها الأخبار لا أدري إن كان مصدرها الواقع أم الخيال.
– إنها من حي اليهود بالظاهر، وُلِدت وترعرعت في جو من الحُرِّية الجنسية المُطلقة!
– وأسرتها مُنحلة، الأب والأم والأخوات.
وهي امرأة لا عذراء مُجربة للسهر والسُّكر والعربدة!
وتشجَّع جعفر خليل بذلك فحاول أن يُنشئ معها علاقة، ولكنه صُد ولم يفلح، وصُد غيره ولم يفلح، ومع ذلك فلم تضنَّ بصداقتها على طالب إذا التزم بحدود الأدب، وطبَّقت شهرتها الآفاق الجامعية، فجاء طلبة من كلية الحقوق للمشاهدة والمعاينة، وكانت في الأدب الإنجليزي تتلو أحيانًا ما تيسر من مسرحيَّة عُطيل فتلقيه إلقاءً مسرحيًّا ناعمًا يسحر الألباب، فحتى الأستاذ الإنجليزي أُعجب بها، وعاملها مُعاملة ودية خاصَّة، وأخذ الطلبة الوقورون — الريفيُّون خاصة — يناقشون الظاهرة السعاديَّة ويتساءلون عن عواقبها الوخيمة، وسرت عدوى اهتمامهم إلى الدكتور إبراهيم عقل الذي يفرض بقامته المديدة رعاية أبويَّة على الطلبة والمُثل العُليا معًا. وانتهز فرصة اضطراب قاعة المحاضرات لارتجاج الثديين النَّافرين، وجعل يُسلِّط سِحر عينيه الزرقاوين على الجميع حتى ثابوا إلى الرُّشد والسكينة، ثم قال: يجب أن يُوجد فرق هائل بين قاعة المحاضرات بجامعتنا وبين صالة بديعة!
فضجَّت القاعة بالضحك في غير موضعه.
ثمَّ وهو يهزُّ رأسَه بطربوشه الطويل: تذكَّروا أننا جميعًا — نساءً ورجالًا — هدف لمجهر النَّاقدين وأنَّ جمهرة منهم لم تُسلِّم بعد بمبدأ اختلاط الجنسين في الجامعة، بل بمبدأ تعليم الفتاة تعليمًا عاليًا.
وفي نهاية المحاضرة استدعى سُعاد وهبي لمقابلته في حجرته، وخمنا موضوع الحديث وتنَبَّأنا بنتيجته المحتومة، وكثيرون شعروا مقدَّمًا بالأسف لحرمانهم الوشيك من الإثارة اليوميَّة الفاتنة. وغادرت سعاد وهبي حجرة الدكتور متجهمة الوجه، ولَمَّا رأت جموع المنتظرين في الخارج قالت بحدة وبصوت مسموع متحدٍّ: لن أسمح لأحد بمصادرة حريتي الشخصية.
وأصرت على التمتع بحُرِّيتها، حتى فوجئنا بصدور أمر بفصلها من الكلية! وفرح البعضُ وأسف البعض أسفًا عابرًا بالرَّغم من اجتماع كلمة الجميع على مُقاومة الحكم السياسيِّ الرَّجعي الذي بطش بحرية الوطن. وجاء والد الفتاة لمُقابلة العميد، وما زال به حتى حمله على سحب قرار الفصل بعد أن تعهَّد له بتحقيق مطالبه. وأَعجب ما سمعت عن رجوع سعاد حدثني به جعفر خليل؛ إذ سألني باسمًا: أما سمعت بالسر وراء عودة سعاد؟
فسألته بدوري: أي سِر؟
– يُقال إنَّ وزير المعارف أوصى العميد بها.
– ولكنَّ وزير المعارف رجل رجعي كثير التشدق باحترام التقاليد؟
– ويُقال أيضًا إنه على علاقة بالفتاة.
على أيِّ حال عادت سعاد، وعندما هلَّت علينا بعد انقطاع استقبلناها بالتصفيق، رأينا وجهها الطبيعي لأول مرة وكان وسيمًا أيضًا، ورأينا فستانها يحتشم طولًا وعرضًا لأول مرة أيضًا، أمَّا ثدياها فلم يستطع تعهد الوالد بتغيير موضعهما ولا فتنتهما، فظلَّا نافرين يتحديان العميد والتقاليد جميعًا.
ويومًا قال أحد الطلاب: أمس رأيتها مع الرجل الإنجليزي بالحديقة اليابانية بحلوان.
وانتشر الخبر في الكليَّة، وسألها صديق عنه فأجابت بأنَّها قابلته هناك مصادفة فسارا معًا يتحادثان. توكَّد الخبر، وبلغ جميع المسئولين في الكلية، ولكن نجمت عن ذلك مشكلة تحدَّت الجميع بقحة لا مثيل لها. لم يكن من المستطاع اتخاذ إجراء مع المُدرس خشية إغضاب دار المندوب السامي، ولا كان من المُستطاع مُعَاقبة الطالبة خشية إغضاب المُدرس! وأدركنا الموقف بكافة أبعاده السياسية والنفسية، وقال جعفر خليل بروحه الساخرة: إنجلترا زادت من تحفُّظات ٢٨ فبرار تحفظًا جديدًا خاصًّا بسعاد وهبي.
وقال آخر: الأسطول البريطاني يُهدد باحتلال الجمارك إذا تعرضت سعاد لأي ضغط.
وقيل في الموقف أشعار كثيرة من أصحاب المواهب من الطلبة، وتبودلت السخريات على مسمع من العميد نفسه. ولكن في بداية العام الدراسي الجديد وجدنا الموقف مُختلفًا، فالمُدرس الإنجليزي لم يرغب في تجديد عقده، وسعاد لم ترجع إلى الكليَّة، أين ذهبت سعاد؟ قيل إنها سافرت مع المُدرس الإنجليزي، وقيل إنها تزوجت، وقيل إنها أصبحت غانية في شارع الألفي، ومع كثرة تقلبي في أنحاء القاهرة فلم تقع عليها عيناي منذ ذلك التاريخ البعيد.