شرارة النحَّال
عرفتُ شرارة النحال أول عهدي بالوظيفة الحكومية. كان عامل التليفون، في العشرين من عمره، ومن حملة الابتدائية حديثًا، وكان يلفت النظر بجمال وجهه ورشاقة قدِّه ورقة شمائله، رأيتُ عم صقر الساعي يُمازحه مرة فيقول له: اخلع بدلتك وارتدِ فستانًا وأنا أضمن لك عريسًا في ظرف أربع وعشرين ساعة!
وخلَتْ درجة سابعة لوفاة شاغلها؛ فاشتعلت أفئدة كتبة الدرجة الثامنة تطلُّعًا إليها، ولم يكن ثمة قانون يُنظم الترقيات، كما كانت الشَّهادة العُليا لعنة على حاملها لما تثيره من حنق في صدور الرؤساء من حملة شهادة الابتدائية القديمة، وفزع كل موظف من الفئة الثامنة إلى من يعرف من الكُبراء والشيوخ والنوَّاب، فانهالت بطاقات التوصية على وكيل الوزارة، ووجدت أنا شفيعًا — في ذلك السباق — في شخص زميلي القديم عبده البسيوني عضو مجلس النوَّاب، وقابلني الأستاذ طنطاوي إسماعيل في الممشى خارج السكرتارية فاستوقفني متجهمًا وسألني: أما عَلِمْتَ بالذي رُقِّي إلى الدرجة السابعة؟
فقلت وقلبي يخفق: كلا.
– أسرع بتهنئة شرارة النَّحال!
فهتفت: شرارة النَّحال؟!
– نعم.
– عامل التليفون؟!
– نعم.
– ولكنه بالابتدائية ووظيفته خارج الهيئة!
فرفع الرجل رأسه إلى فوق وقال: اللهمَّ فاشهد، ما زال بمصر أناس يحتكمون إلى المنطق!
ثمَّ مضى إلى حجرته، وذهبتُ إلى إدارة السكرتارية، فوجدت أنَّ الترقية أصبحت خبر اليوم دون منازع.
– هل سمعتم عن عامل تليفون في الدرجة السابعة؟
– مَن قال إنه عامل تليفون؟ … لقد انتُدب للعمل بمكتب وكيل الوزارة.
– وكيل الوزارة على سن ورمح؟
– وكيل الوزارة على سن ورمح!
وتساءلت: كيف … ولماذا؟
فقال لي الأستاذ عباس فوزي همسًا: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا …
وقال لي عم صقر الساعي وهو يُقدِّم لي القهوة: لا تُدهش يا بك، حضرتك موظف جديد نسبيًّا، هذا هو كل ما هنالك، والمسألة أنه كان تقرر ترقية موظف آخر، ولكنَّ شرارة طلب مقابلة سعادة وكيل الوزارة، ولما طُرد من سكرتاريته انتظر في الممشى حتى إذا خرج الوكيل في وقت الانصراف رمى بنفسه بين يديه، وقال بلهجة تمثيلية كأنه فاطمة رشدي إنَّه مسئول عن أسرة كبيرة، وإنه لا واسطة له بعد الله إلا سعادته، ونظر إليه الوكيل نظرة عابرة لا تخلو من ضيق وامتعاض، غير أن شيئًا في وجه شرارة جعله يُعيد إليه النظر باهتمام، ولبث ينظر إليه كأنما لا يُريد أن يسترد بصره.
وسكت الساعي وهو يبتسم بخبث فساورني الشك. غير أني سألته: أيَّ شيء تقصد؟
فانسحب الرَّجل من أمام مكتبي وهو يهمس باسمًا: في العشق يا ما كنت أنوح!
ونُقل شرارة النحال إلى مكتب الوكيل بصفة نهائيَّة للعمل في أرشيفه، وتغيَّر منظره الخارجي ليُناسب وظيفته الجديدة، فارتدى بدلة جديدة أنيقة بدلًا من القديمة الرثة، ولبِسَ حذاءً أسود بدلًا من النعل المطاط، وتزين عنقه بكرافتة حريرية عليها طابع الهبة، وأطلَّ من طرف جاكتته الأعلى منديل مزركش. وصرنا إذا تقابلنا تبادلنا التحية تبادُل الأنداد لا تبادلها القديم بين موظف وآخر في حكم السعاة. ولعلَّه كان على وعي بما يدور عنه ولكنه لم يكترث له، إمَّا لأنه كان مكشوف الوجه، أو لأنه آمن بأنَّ مركز القوة خليق بمحق المعايب وإخراس الألسنة. وفي ظرف عامين عُيِّن شرارة سكرتيرًا خاصًّا للوكيل مع ترقية إلى الدرجة السادسة. وتهامس الموظفون بشتى التعليقات كالعادة، وقال لي الأستاذ عباس فوزي: ستراه عمَّا قريب ضمن الهيئة الحاكمة!
وسرعان ما عُرف في الوزارة كأهم شخصية في مكتب الوكيل، أهم من مدير المكتب نفسه، فصار كعبة لطلاب الحاجات من الموظفين والأهالي، وانهالت عليه الهدايا أشكالًا وألوانًا، وأصبحت ابتسامته أو تحيته هدية يُفاخر بها المتلقي وهو يحمد الله المنَّان. وحدث أن تولى وزارتنا وزير من «أهل ذلك» فانفجرت أزمة لم تجرِ لأحد في خاطر، بالرَّغم من أنَّ الوزير والوكيل كانا ينتميان إلى حزب واحد. ودبَّر المؤامرة موظف كبير من محاسيب الوزير، كان يتحين الفرص للانتقام من الوكيل؛ لإساءة سبقت منه إليه، فحدَّث الوزير حديثًا مغريًا عن سكرتير الوكيل «الجميل». ورتَّب لقاءً بين الوزير والسكرتير لعرض أوراق طلب الوزير الاطلاع عليها، وقيل إنَّ الوزير اقتنع بكفاءة السكرتير من النظرة الأولى، وإنَّ السكرتير رحَّب بتقدير الوزير ترحيب شابٌّ ليس لطموحه حد. وأُبلغ الوكيل برغبة الوزير في نقل سكرتيره إلى مكتبه فثار غضبه، وصارح مُبَلِّغه بأنَّه لا يستغني عنه. وغَضِبَ الوزير بدوره، فأصدر أمرًا بنقل شرارة إلى مكتبه فما كان من الوكيل إلا أن اعتكف في قصره، وقيل إنَّ رئيس الحزب وبَّخ الرجلين، وإنه حذرهما من تسرب خلافهما إلى الصحف الوفدية، فرجع الوكيل إلى عمله كاظمًا غيظه. وتتابع صعود شرارة النحال فرُقي إلى الخامسة — مع قيده على الرابعة — وترامى المستقبل أمامه فسيحًا باهرًا. غير أنَّه لم يشق طريقه مُعتمدًا على جماله وحده، أو إن جماله لم يكن ميزته الوحيدة، فكان إلى ذلك ذكيًّا عالي الهمَّة مزودًا بأكثر من سبب من أسباب النَّجاح، ففي أثناء عمله المرهق انقلب من جديد تلميذًا مجتهدًا، وحصل من «منازلهم» على شهادات الكفاءة فالبكالوريا وأخيرًا ليسانس الحقوق. وعلَّق عباس فوزي على اجتهاده متهكمًا وجادًّا في آنٍ فقال: ليس كغيره من أمثاله، فهم اعتمدوا على جمالهم وحده، وهو خاصية تفقد قيمتها سريعًا بالتقدم في العمر؛ لذلك تجدهم الآن كهولًا منسيين في الدرجة الرَّابعة أو الثالثة على الأكثر، أمَّا صاحبنا فيُعِد نفسه للمناصب الرفيعة!
وكموظف يُعتبر من أكفأ الموظفين الذين عرفتهم في حياتي، هِمَّة في العمل وجلدًا عليه، وحُسن تصرف فيه، فهو مرجع من المراجع الهامَّة في الإدارة، ومن ناحية أخرى اشتهر بالطموح والأنانية، والقسوة في معاملة مرءوسيه من زملائه القدامى، فلم يغفر لأحدهم هفوة أو زلَّة لسان، وكان قدرًا كبيرًا من سعادته لا يتحقق إلا بإذلالهم والتمثيل بهم. واستقالت الوزارة وهو في الدرجة الثالثة مديرًا لمكتب الوزير. وتولَّى الوفد الحكم، وأحيل الوكيل إلى المعاش قبل أن يتمكن من الانتقام من محبوبه القديم، وهرع الحاسدون إلى الوزير الجديد فاتَّهموا مدير المكتب بالحزبية المضادة والشذوذ الأخلاقي. ودافع شرارة عن نفسه باستماتة فقال إنه «موظف» وموظف فحسب، ولاؤه أولًا وأخيرًا للعمل، وإخلاصه لمن يعمل في خدمته. وتقرر نقله مديرًا للمحفوظات، وهي وظيفة خلفية لا مجال فيها للطموح، ومع ذلك فقد عكف على دراسة نظام الأرشيف، وأعاد تنظيمه على أُسس جديدة مما بثَّ فيه حياة لم يحظَ بها من قبل. ودعا الوزير لتفقده فأُعجب الرجل باجتهاده وأثنى عليه، وإذا به ينشر مقاله في جريدة المقطم بعنوان «وزير وفدي يثني على خصم من خصوم الوفد»، نوَّه فيها بعدالة الوزير وإخلاصه وإيثاره للمصلحة العامة، وكيف أنه شجَّعه بدل أن يبطش به، وختمها بقوله: إنَّ الإنسان ليحتاج إلى قوة خارقة لتمنعه من الارتماء في أحضان الوفد.
وحدَّثني الأستاذ عباس فوزي بأنَّه كان في حضرة الوزير عندما استدعى شرارة النحال لشكره، وأنه قال له: من أين لك بهذا الأسلوب البليغ؟
فما كان من شرارة إلا أن قال على الفور: إنه فضيلة يا صاحب المعالي اكتسبتها من حفظ خُطب خالد الذكر سعد زغلول باشا!
ونُقل شرارة النحال مُديرًا للمستخدمين، ثم رُقي إلى الدرجة الثانية قبيل إقالة حكومة الوفد. وفرح الحاسدون وقالوا «الدب وقع»، فها هو الوزير السابق يعود ومعه الوكيل أيضًا، فما عسى أن يصنع شرارة النحال؟ وتوقعنا أن نشهد خاتمة الرجل، ولكنا فوجئنا جميعًا بترقيته إلى الدرجة الأولى مديرًا عامًّا للإدارة!
– ما معنى هذا؟
– ماذا جرى في الدنيا؟!
ومضت الأخبارُ تتسرَّب كنقط الماء، عرفنا ما خفي علينا، فطيلة عهد الوفد لم ينقطع شرارة عن زيارة وزيره السابق سِرًّا، وكان يُنفذ له رغائبه دون أن يدري أحد. وأكثر من ذلك سعى سعيه حتى صالح بين الوزير السابق والوكيل المُحال إلى المعاش؟ فلمَّا رجعا قال بكل ثقة: رجع عهدنا العتيد!
وقيل أيضًا إنه راح يُعطي دروسًا خصوصية لابن الوزير الوفدي الطالب بكلية الحقوق. غير أنَّه بفطنته أدرك أنَّ ميزان القوة الحقيقي مضى يتركز في السراي، وأنَّ السراي خيرٌ وأبقى لمن أوتي بُعد نظر حقيقي، وعليه ألَّف كتابه الوحيد «صانعو مصر الحديثة» أرخ فيه لمحمَّد علي وإسماعيل وفؤاد، وأهداه إلى السدة الملكية. وجاءه من الديوان الملكي جواب شُكر نُشر في جميع الصحف، وقال لزميله وغريمه عدلي المؤذن: الآن أصبحت من رجال السراي، ولن يُفكر حزب في التنكيل بي.
وفي أواخر أيام الحرب تزوَّج من أسرة محترمة، فأنجب بنتًا وولدًا، كانا — مثله — آيتين في الجمال، وقد تزوَّجت الفتاة من سكرتيره، أمَّا الشاب فعمل ضابطًا في الجيش، وعقب انتهاء الحرب العظمى الثانية وقبيل إجراء انتخابات لمجلس الشيوخ استدعاني في مكتبه، وتعطَّف فسمح لي بالجلوس أمام مكتبه وقال لي: انتخابات الشيوخ غاية في الأهمية، ولو فاز الوفديون لحقَّ لهم تغيير العهد كله.
فنظرتُ إليه متسائلًا فواصل قائلًا: إنِّي أفكر في إرسال اسمك ضمن المُرشحين لرئاسة اللجان الانتخابية.
فابتسمتُ ولم أنبس فقال: ستجدُ في الدائرة رجلًا من رجال حزبنا.
فسألتُ بخبث: أي حزب؟
فضحك عاليًا، حتى احتقن وجهه الوردي بالدم ثم قال: لا أهميَّة للحزب، المهم الولاء لصاحب العرش!
فقلت بقلق: لا خبرة لي بذلك العمل.
– أغمض عينيك ودع المأمور يعمل، لن يطلب منك أكثر من ذلك.
فوجمت وهو ينظر لي ثم قال متأسفًا: الحقُّ أني رشحتك لما أعهده فيك من خلق طيب، ولكني لن أثقل عليك.
ونهض مادًّا يده فصافحته وغادرت الحجرة، وأسفرت نتيجة الانتخابات عن نجاح عشرة من الشيوخ الوفديين في أربع وأربعين دائرة، استعملت فيها جميع صنوف الضغط والإرهاب والتزوير كالعادة، فحمدتُ الله على أنني لم أشترك في تلك الجريمة التاريخية المُدبرة.
وقد اختلفت الأقوال في نزاهته فمن قائل إنه كان نزيهًا بالرغم من عيوبه الكثيرة، ومن قائل بأنه لص أريب شديد الحذر، ومعروفٌ أنَّه امتلك فيلا جميلة في حلوان وعمارة في الدقي، ولكنه كان يُردد دائمًا بأنهما اشتُريا بأموال زوجته، ولمَّا قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ قُدِّم إلى لجنة التطهير بناءً على ما قُدم فيه من عرائض، ولكن الظاهر أنه لم يثبت عليه ما يدينه، فاستمرَّ في عمله. وقيل إنه استمر بفضل شفاعة ابنه الضابط والله أعلم. ورُقي بعد ذلك وكيلًا للوزارة، ثم عُين رئيسًا لمؤسسة عقب تطبيق القوانين الاشتراكية. وتسلل إليه الحزن مرتين، مرة عندما أُصيب ابنه برصاصة غير قاتلة في حرب اليمن، ومرة عندما أُصيب زوج كريمته إصابة عشواء — وهو جالس في مقهى — في مظاهرات الطلبة التي تفجرت عقب هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧. ولم أره منذ غادر الوزارة، وانقطعت عني أخباره إلا فيما تسوقه المصادفة بين الحين والحين، وآخر ما سمعتُ عنه من صديق رآه في مكة عام ١٩٧٠ وهو يؤدي فريضة الحج.