شعراوي الفَحَّام
لعله كان أطيب أصدقاء العباسية، طيبة تُخالطها لا مبالاة، وبساطة بالغة في الذكاء والتفكير، وأتذكره كُلَّما تذكرته ضاحكًا لسبب ولغير ما سبب، وكان يكفيه أن يسمع شتمة أو ملاحظة عابرة ليغرق في الضحك، وكلما اشتد نقاشنا في السياسة ضحك، وكلما تجادلنا في الكرة أو السينما ضحك، وإذا شهدنا جنازة قريب لصديق تجنبنا النَّظر نحوه خشية إثارة فضيحة بين المُعَزِّين. حضرنا يومًا جنازة شاب قريب لجعفر خليل، وخرجت أم الشاب تودِّع النَّعش أمام البيت في حال جنونية، حافية القدمين محلولة الشعر تلطم خديها بشبشب، ثمَّ من شدة الحُزن راحتْ تَرْقُص كالمجنونة، منظر أثار حزننا جميعًا وأجرى دموعنا، ولاحت مني التفاتة نحو شعراوي الفحَّام فرأيته يعض النواجذ على ضحكة تُريد أن تفلت على حين راح جسمه النحيل يرتعش تحت ضغط الضحك المكتوم، ولم يكن قاسيًا ولا بليدًا ولا أبله ولكنه كان غريبًا، كان نوعًا قائمًا بذاته. وكان يُقيم مع أمه في البيت المجاور لبيت سيد شعير، بلا أب ولا أخوة، مات أبوه وهو في المهد، تاركًا له ولأمه البيت ومعاشًا مقداره عشرة جنيهات، وكرَّست أُمُّه حياتها لتربيته مُعتمدة على معاش زوجها وريع وقف يماثله في المقدار، لذلك اعتُبرت أسرة ميسورة الحال، وستظل كذلك حتى يدخل شعراوي طور الشباب فتكثر مطالبه ويتغير الحال. ولم يوفق شعراوي في دراسته الابتدائية، لا بسبب الإهمال والشقاوة مثل خليل زكي وسيد شعير، ولكن بسبب الإهمال والشقاوة والغباء. وفُصل من المدرسة لكثرة سقوطه، فلم يجد سوى البيت والمقهى والطريق. ونفر بطبعه المهذب من مصاحبة خليل زكي، ولكنَّه وجد ملاذه عند سيِّد شعير، فلازمه في سهرات الحي الحُسيني ثمَّ في أحياء البغايا بعد ذلك. وعن طريقه تعلم شُرب الخمر، ثم لم يفارقه إدمانها حتى الموت. ويومًا قال لي وكان ما زال تلميذًا بالابتدائية: أنا عارف!
فسألته عمَّا يعنيه فقال: أنت تُحب حنان مصطفى.
فسكتُّ ضيقًا وحياءً فقال: وأنا أُحِبُّ حنان مصطفى!
فدهشت وتوقعت صراعًا من نوع ما غير أنه ضحك وقال: يد الله مع الجماعة!
– ماذا تعني؟
– نستدرجها معًا إلى غابة التين الشوكي!
فصحتُ به: عليك اللعنة!
وكان ذلك قبيل رحيل آل مصطفى بأيام، فسرعان ما تلاشى سوء التفاهم، على أنِّي لم أعرف له بعد ذلك قصة حُبٍّ أو زواج، واقتصر نشاطه في ذلك المجال على مُصادقة المومسات. ولما يئست أمُّه من تعليمه أرادت أن تجد له عملًا، وكانت تُردد دائمًا أن أي عمل خير من البطالة. وقصدتْ قريبًا لها من الكبراء هو أحمد باشا ندا، فوظَّفه في وزارة الأوقاف، ولكنه لم يستطع المواظبة على العمل، وكان يمضي يومه في الفيشاوي مُنتظرًا سيد شعير حتى يفرغ من عمله في دُكان أبيه، وسرعان ما فُصل من الوزارة، ولم يتخلَّف يومًا عن سهراتنا الأسبوعية سواء كُنَّا طلبة أم موظفين، وتمكَّن منه إدمان الخمر، فكان يشرب كل ليلة، يشرب أرخص الخمر وأردأها التي تتناسب مع دخله، ويمكن تخيل ما أحدثه ذلك في أمه من قلق وأسًى، وهو نفسه قال لنا ذات ليلة ونحن نسمر في مقهى سيد شعير بوجه البركة: أمِّي لا تريح ولا تستريح، تُريد أن تخلق لي عملًا ولكن أي عمل؟ وتريد أن تُزوجني ولكن أي زوجة؟
فقال له عيد منصور: دخلك الثابت عشرة جنيهات، وهو دخل طيب لو قنعت بسكرة واحدة في الأسبوع، وما عليك إلا أن تبحث عن زوجة ذات إيراد.
فضحك كالعادة وقال: إني أنتظر الفرج، وهو آتٍ عما قريب!
وكان يقصد قريبه أحمد باشا ندا الذي تولى رئاسة الديوان الملكي فسأله عيد منصور وهو أشغفنا بالشئون المالية: ألك فكرة عن ثروته؟
فأجاب شعراوي وهو يملأ كأسه بالكونياك الجهنمي: عشرون ألفًا من الأفدنة، أمَّا أمواله السائلة فلا يعلمها إلا الله.
– ولا ورثة له غيركم؟
– أمي هي قريبته الوحيدة الباقية.
وكان رضا حمادة يؤكد لنا تلك المعلومات نقلًا عن أبيه. ومن الطريف أنَّنا لم نعلم بقرابة شعراوي لأحمد باشا ندا إلا في وقت متأخر نسبيًّا؛ إذ إنَّه أخفاها على عهد المدرسة الابتدائية لسوء سمعة الباشا كرجل من رجال السلطان، وعدو من أعداء سعد زغلول. واسترسل شعراوي يقول: أمِّي هي الوريثة الوحيدة له، وأنا الوريث الوحيد لها، والباشا الآن في الخامسة والسبعين من عمره، وكلُّ آتٍ قريب!
وسأله جعفر خليل: حدثنا عما ستفعل بالتركة إذا آلت إليك؟
فضحك طويلًا وقال: آه لو تتحقق الأحلام، سأبني قصرًا في القاهرة، وآخر في الإسكندرية كالباشا نفسه، وسأملأ الخزائن بجميع صنوف الخمر المُعَتَّقة، وأما النسوان …
فقاطعه سيد شعير: وماذا ستقدم لنا نحن الأصدقاء؟
فأجاب: ستكون سهرتكم في حديقة القصر، وسيقدم لكم أجود ألوان الطعام والخمور والنساء، عهد الله بيني وبينكم.
وهمس رضا حمادة في أُذني: سوف يكون يومًا تاريخيًّا يوم يرث صديقنا تركته الخيالية.
وظلَّ يسكر ويحلم بالتركة، يسكر ويحلم، ومع الأيام رَقَّ عوده، وجفَّ جلده، وبرغم شبابه جرى المشيب في شعره. وإذا بالباشا العجوز يفاجئ البلد بمغامرة لا تخطر بالبال، فعاد من رحلة بالنمسا بصحبة غادة شقراء فتنة في العشرين من عمرها، قيل إنه ينوي الزَّواج منها على سُنة الله ورسوله. وثار الرأي العام، واضطربت جماعتنا، أمَّا صديقنا فكاد يُجَن، وما ندري إلا وشعراوي يُقيم على الباشا دعوى للحجر عليه باعتباره سفيهًا. وأدهشنا ذلك وبحثنا عما خفي علينا منه فوضح لنا أن خليل زكي هو الذي أشار عليه بذلك! غير أنَّ قوى مجهولة تدخلت لتعيد إلى الأمر توازنه، فسافرت الفتاة النمساوية فجأة، وقيل إنها لم توافِق على السفر حتى استولت على عشرين ألفًا من الجنيهات. وبتدخل السراي كفت الجرائد عن الخوض في الموضوع، وبتدخلها أيضًا رُفضت دعوى الحجر، واعتكف الباشا في قصره لا يزور ولا يُزار، ثم أعلن وقفيته المشهورة التي أوقف أرضه بها للخيرات والمساجد. تذكرنا صديقنا فأحزننا مآله وخيبة آماله، وأقبل علينا في مقهى الفيشاوي سكران كالعادة محمر العينين ذاهل الطرف، نظر في وجوهنا مليًّا، ثم أغرق في الضحك! وخلع حذاءه فوثب إلى أريكة في صدر المقصورة فتربع عليها وراح يُغني:
وأغرق في الضحك مرة أخرى حتى أعدانا فضحكنا كالمجانين. ولم يطرأ عليه من جديد بعد ذلك سوى الإفراط في الشراب، فكان يشرب في النَّهار كما يشرب في الليل، ولم يتيسر له من أنواع الخمور إلا الأنبذة الرَّخيصة الشيطانية، أنبذ السلسلة، ودرب المبلات، وخَمَّارات شارع محمد علي، وخبت شهواته الأخرى كشهوة الطعام وشهوة النِّساء، وبدا أنه يعيش في منفى من صنعه، يتخاطب بلغته القائمة على الإشارة، ويضحك لخيالاته الرَّاقصة أو يطرق في كآبة حيال أشباحه، وأنَّه يسير بقوة نحو الذوبان. وحاول جعفر خليل أن يجره إلى دنيا السينما كما فعل مع خليل زكي، ولكنه رفض الفكرة وضحك طويلًا، وعرض عليه سيد شعير أن يعمل في المقهى بشرط أن يمتنع عن السُّكر فضحك أيضًا. لم تكن لديه هِمَّة ولا رغبة ولا دافع. وقامت الحرب العظمى الثانية، وفي نفس العام تُوفيت والدته، فأجَّر البيت وأقام في حجرة مُسْتقلة بمرافقها فوق السطح، وفي عام ١٩٤١ أغارت الطيارات الإيطالية على القاهرة في النصف الثاني من الليل، وكان جالسًا فوق السطح في غيبوبة تامة من السُّكر. والظاهر أنَّه لم يُغادر كرسيه إذ وُجد مطروحًا عليه قتيلًا بشظية مستقرة في رأسه. وكان مصرعه أول تجربة من نوعها في حياتنا المشتركة، فهو أوَّل من فقدنا من أصدقاء العمر، وكان جعفر خليل أشدنا حزنًا؛ إذ عُرف دائمًا بتعاطفه مع أصدقائنا المنحرفين كسيد شعير وخليل زكي، وجمعنا المأتم حتى الذين باعدت بيننا وبينهم الظروف الطارئة، وجعل سيد شعير يقول بأسف حقيقي: رحم الله شعراوي، كان الوحيد المواظب على زيارتي.