صَادِق عَبد الحَميد
قال الأستاذ جاد أبو العلا يُقدِّمه لي في صالونه بالدقي: الدكتور صادق عبد الحميد.
سرَتْ في رُوحي رعدة وأنا أُصافحه، تذكرت الاسم بقوة مُخيفة، تذكرت دُرِّية زوجته وهي تحدثني عنه، ترى أيكون آخر له نفس الاسم؟ ولكنَّ هذا الأمل تلاشى عندما واصل جاد أبو العلا حديثه قائلًا: كان في بعثة قصيرة أخيرًا في إنجلترا، ولكنه حصل على الدكتوراه من إنجلترا على عهد طلب العلم، وهو باطني ممتاز ولكنَّه أديب وفنان وفيلسوف وسياسي أيضًا.
إذن فهو زوج عشيقتي دون غيره! ذلك الرَّجل الذي بلغ الأربعين بالكاد، والذي يفيض حيوية ويتألق ذكاءً، وأعجبني حديثه الذكي وجولاته المضيئة في الفن والفكر والسياسة، ووجدته يجذبني بطلاوة الحديث وعمقه وتنوعه، ووجدت في روحه سِرًّا ينفث صداقة راسخة، وازدادت مع الأيام رسوخًا، وصفا جوها بقطع العلاقة بيني وبين دُرِّية زوجته، وإن لم أخلُ من ضيق كُلَّما تذكرتها. وبتحريض حار من ناحيته قَدَّمْتُه إلى صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، ومجلس الأستاذ سالم جبر. كما قدمته إلى الأستاذ زهير كامل، وخُيِّل إليَّ كثيرًا أنه يُضمر تجربة نفسه في الكتابة، ولكنَّه قنع — ولو إلى حين — بالاستماع والمناقشة، وكان يحظى منهما بسعادة لا تُوصف. وكان من المُتحمسين لثورة يوليو عن إيمان وعقيدة. وكان يحلم بالاشتراكية منذ عهد طلب العلم، ولم تكن له جذور حزبية أو إقطاعية تمنعه من الارتماء في أحضان الثورة. سأله رضا حمادة يومًا: أليس لك مأخذ ولو على بعض تصرفاتها؟
فأجاب بحماس، وهو دائمًا يتكلم بحماس: كلا، الحق أني أيَّدت موقفها من الأحزاب، من الإخوان، وحتى من الشيوعيين.
فسأله: وما لزوم «حتى» هذه؟
– لست شيوعيًّا، ولكني أُرحِّب بالتعاون بين الثورة وبينهم، فالثورة والشيوعية تيَّاران ينبعان من مصدر واحد، ويهدفان في النِّهاية إلى أغراض متقاربة.
وبعد صمت قصير استطرد: وأيَّدت موقفها من الوحدة مع سوريا، ومن حملة اليمن!
فقال رضا حمادة: إذن فليس في الإمكان خير مما كان.
فقال ضاحكًا: لستُ غافلًا عن السلبيات، ولكنها شَرٌّ لا بد منه في فترات الانتقال والتطور، فأنت بضربة موفقة واحدة تستطيع أن تُغَيِّر نظام الحكم، أمَّا الطبائع فيلزمها وقتٌ أطول بكثير!
وعمد إلى تفصيل رأيه فقال: قولوا في الجمعيَّات التعاونية ما شئتم، وقولكم حق، ولكنَّها كنظام فهو نظام مثالي، وسوف يختفي الفساد يومًا وتبقى الجمعية لتؤدي رسالتها، ويُمكن أن يُقال ذلك بالحرف عن القطاع العام، ألا تذكرون بنك التسليف الزِّرَاعي؟ .. لقد استغله إسماعيل صدقي للتنكيل بخصومه، وتفتيت وحدة الأمة ولكن إسماعيل صدقي ذهب وبقي بنك التسليف!
ولمَّا وقعت الواقعة يوم ٥ يونيو ١٩٦٧ ذُهل واختل توازنه، ومضى يتخبَّط بين الصالونات والمقاهي وكأن القيامة قامت، ودار بيني وبينه حديث طويل في التليفون ختمه متسائلًا: أكانت حياتنا وهمًا من الأوهام؟!
وقابلته بعد ذلك بأيام في بيت رضا حمادة بمصر الجديدة فوجدته مُمتعضًا غاية الامتعاض، وجعل يُردد بتألم شديد: ما أكثر الشامتين، ما أكثر الهازئين، ما أكثر المازحين، لم يجن أحد، لم ينتحر أحد، لم يُصب بجلطة أو ذبحة أحد، يجب أن أجن أو أن انتحر.
ولكنَّه أخذ يسترد الثقة يومًا بعد يوم، وينظر إلى الهزيمة باعتبارها تجربة مريرة نزلت بنا لنُعيد «تشخيص» أنفسنا، وكلَّما سمع عن رغبة الأعداء في تصفية الثورة ازداد إيمانًا بها وحماسًا لها، حتى اعتقد مُخلصًا أن استمرارها أهم من استرداد الأجزاء المحتلة من الوطن العربي؛ إذ ما فائدة أن نسترد أرضًا ونخسر أنفسنا؟ ثم إنَّ استمرارها هو الضمان الوحيد لاسترداد الأرض طال الزمان أو قصر، كما إنه الضمان الوحيد لبعث الشعب العربي.
– إنَّنا مُطاردون، يُطاردنا التخلُّف، وهو عدونا الحقيقي لا إسرائيل، وليست إسرائيل عدوًّا لنا إلا لأنها تهددنا بتجميد التخلف.
وانصرفنا ذات ليلة معًا من صالون الدكتور ماهر عبد الكريم؛ فجلست إلى جانبه في سيَّارته نصر التي مضت بنا على مهل تخوض الظلام على ضوء فانوسها المطلي بالأزرق. ووجدتني أقول له: عبده البسيوني حدثني بحديث عجيب.
فتساءل عن الحديث فقلت: قال إنَّ الدكتور زهير كامل عشق أخيرًا صحفية تحت التمرين تدعى نعمات عارف.
– وما وجه العجب في ذلك؟
– هو في الستين كما تعلم وهي في العشرين.
فضحك وقال: العشق هو العشق بصرف النظر!
فقلت: وقال أيضًا إنه سيتزوج منها.
– يا عزيزي إنَّ حربًا تنشب فجأة فتقتل آلافًا أو ملايين، وإن زلزالًا يقع فيُدمر آلافًا، أمَّا زواج زهير كامل فربما مَرَّ بسلام، وربما تخلَّف عنه ضحية أو ضحيتان!
وسكتنا مليًّا، ثم قال لي: أعترف لك بأني عاشق!
فتذكَّرت ما قالته لي درية في آخر لقاء، ولكني تساءلت مُتظاهرًا بالاهتمام: حقًّا؟
– راقصة إيطالية بالأوبرج.
– لعلها نزوة!
– حب عاش أكثر من عشرة أعوام.
– يا له من حب عظيم!
– أشعر أحيانًا بأنه عاش أكثر مما ينبغي!
فتردَّدتُ، وصمتُّ، بعد أن كدت أطرح سؤالًا عن الزوجة، ولكنه قال وكأنه قرأ أفكاري: كما أحببت يومًا زوجتي.
وحدَّثني بفتور عن حبهما، حب طبيب الامتياز للممرضة، كما سبق أن سمعته: كانت فقيرة، وبالرَّغم من أننا لم نكن أغنياء إلا أنَّ أحدًا من أهلي لم يُوافق على فكرة زواجي بها، أبدًا أبدًا أبدًا.
– ولكنَّك تزوجتها.
– وغرقنا في الحب كالمجانين.
وتمرَّد اللسان على تحفُّظي فقلت: ثم جَفَّت ينابيع الحب!
فارتفع صوته — كأنَّما ليستمد من ارتفاع النبرة دفاعًا — وهو يقول: الحقُّ أنَّ نظرتها إلى الحب تغيَّرت تمامًا بمُجرد أن صارت أمًّا.
– كيف تغيَّرت نظرتها؟
– لا أدري!
– أنت تدري بلا شك.
– لعلها أصبحت تكنُّ حبًّا أعظم من الحب العادي، ولكني افتقدت الحب الأول .. وإذا بي.
– وإذا بك؟
– إذا بي أزهد فيها نهائيًّا وبلا رجعة.
– يا لها من سيدة تستحق الرثاء!
– إني أوفر لها جميع أسباب الرِّعاية والرَّاحة!
ثم بصراحة: أحيانًا أتمنى لو توفَّق إلى حب رجل آخر فتذهب معه بسلام!
وخُيِّل إليَّ أنَّ قصة دُرِّية قد اكتملت، ولكن ساورتني — وما تزال — شكوك كثيرة. وشاءت الظروف أن نتعرف — أنا وصادق — إلى حرم الدكتور زهير كامل معًا، ودعاهما الدكتور صادق عبد الحميد إلى رحلة في أوبرج الفيوم، ولم يصطحب زوجته معه بحجة انشغالها بالأولاد. وبعد مرور عام قال لي الأستاذ جاد أبو العلا في صالونه: إني رأيتهما معًا!
فسألته عمن يعني فقال: نعمات عارف والدكتور صادق عبد الحميد في كنج مريوط.
فقلت وأنا أُداري انزعاجي: لعلها …
فقاطعني ساخرًا:
وقلتُ لنفسي إنَّ الدكتور الممتاز يحتاج إلى مزيد من الدراسة عن جانبه العاطفي. وظلَّ يتحدث في السياسة والفن ولكنه لم يُشر بكلمة إلى حُبِّه الجديد، وواصل زياراته للدكتور زهير كامل، وقام بتمثيل دور الصديق والمعجب كما كان يفعل من قبل، وهو ما ساءني منه وأثار اشمئزازي، وضاعف من إثارتي أني رأيت في نفس العام دُرِّية في سيارة جاد أبو العلا، وهو ينطلق بها في طريق الهرم، وللحال تذكرتُ فيلته بالهرم التي حَدَّثني عنها عجلان ثابت عندما أخبرني بعلاقته — جاد أبو العلا — بأماني زوجة عبده البسيوني، ها هي دُرِّية تُجرب حظها مرة أخرى مع رجل عابث لا يُوفر الأمان لأحد. وضقت بهمومي الأخلاقية، وتذكرت الكثيرين ممن يصفونها بازدراء بقولهم «برجوازية»، وقلتُ لنفسي إنَّه لمن حُسن الحظ أنه لم يبقَ لنا طويل عمر في هذه الحياة المتعِبة الفاتنة.