صَفاء الكاتِب
كان بيت الكاتب من أعرق البيوت في العباسيَّة القديمة. وكان يقع في الحي الشرقي بمبناه الشامخ وحديقته المُترامية ما بين محطتي ترام. وكثيرًا ما سِرْنا بحذاء سوره، ونحن في طريقنا إلى الصحراء للعب الكرة فلم أرَ منه إلا رءوس الأشجار وخمائل الياسمين والستائر المسدلة. وذات يوم وكنت ماضيًا نحو الصحراء رأيتُ حنطورًا ينحدر من الطريق الشرقي نحو الشارع العمومي، في صدره جلست عجوز تلوح من وجهها عينان ناعستان فوق حافة اليشمك، وإلى جانبها فتاة تتألق بنور الشباب. وبمجرَّد أن وقعت عيناي على وجه الفتاة عانقت سِرًّا من أسرار الحياة المتفجرة، تفتحت بها أبواب السماء فأغدقت عليَّ فيضًا من بركات الحب، وقال شعراوي الفحَّام، وكان أكثرنا خبرة بالحي الشرقي: هي صفاء ابنة صاحب القصر.
وقال خليل زكي وكان يسطو على حدائق الحي الشرقي كُلما وجد غفلة ليخطف عنقود عنب أو ثمرة من المانجو: وهي في العشرين من عمرها.
وعند ذلك همس جعفر خليل في أُذني وقد لحظ تغيري: أمَّا أنت ففي الخامسة عشرة!
ومن عجب أنَّ صورتها — رغم العاطفة التي ابتعثتها — اختفت تمامًا وراء سُحب الماضي، بل تعذَّرت على الوضوح حتى وأنا فريسة لسحرها. لا أعرف لون شعرها ولا تسريحته ولا لون عينيها أو رسمهما ولا طول قامتها أو درجة امتلائها، ذاب ذلك في سائل سحري، وكنتُ إذا تذكرته — أو خُيِّل إليَّ ذلك — فعن طريق غير مباشر وبإيحاء عفوي كشذا الورد الذي يباغتك من وراء سور وأنت ماضٍ غارقًا في أفكارك. وكأنَّ قلبي لم يكن يُحَرِّكه شيء إلا إذا انتهى إليها بسبب خفي، ولذلك هِمْتُ في أزمنة مُتأخرة نسبيًّا بقسمات وملامح وسمات ولفتات لنجوم توهَّمت أنها تُذكرني بما غاب عني منها، بل ما أحببت صفة في وجه إنساني إلا وكانت هي وراءه حقيقة أم وهمًا. وبسبب ذلك الحب الخاطف عانت حياتي العاطفية من أزمات متواصلة معقَّدة كأنها السحر الأسود. والعَجيبُ أنَّه كان حبًّا بلا مواقع، ولا مواقف، ولا تاريخ يُذكر. رأيتُها في الحنطور ثواني ليس إلا، ففقدت إرادتي، وأُلقي بي في طور جديد من أطوار الخلق. وكنتُ قريب عهد بحب حنان مصطفى؛ فأدركتُ خطئي وآمنت بأنني أحب لأول مرة، وعرفتُ كيف يغيب الإنسان وهو حاضر، ويصحو وهو نائم، كيف يفنى في الوحدة وسط الزِّحام ويُصادق الألم، وينفذ إلى جذور النباتات وموجات الضوء. وجعلتُ أحومُ حول سراي الكاتب، وهو قصر مُغلق النوافذ مُسْدل الستائر لا يُرى به إنسي سوى البوَّاب والبُستاني وبعض الخدم، وسمعتُ مرة صوتًا ناعمًا يُنادي البواب، فاهتز قلبي وافترضت في الحال أنه صوتها ثم آمنت بذلك. ورأيتها للمَرَّة الثانية في مناسبة حزينة جدًّا، في نافذة بيت أثري بشارع محمد علي احتشد فيه نفر من النساء لمُشاهدة جنازة سعد زغلول، ولم أنتبه إليها عقب مرور النعش، فرأيت من خلال دموعي وجهها المشرق، وهي تجفف عينيها مادَّة عنقها وراء النعش المبارك. خفق قلبي خفقة مُباغتة، ولكنني لم أنعم بالرؤية، وفقدت النشوة في قلب كسير محزون، واجتاحتني عواطف مُتناقضة كما اجتاحني تيار الخلق المُتلاطم الباكي. لم أرها بعد ذلك إلا ساعة هبطت أدراج السلاملك في ثوب العرس لتستقل سيارة إلى بيت العريس، وكنتُ ضمن حشد وقف على الطوار المواجه للقصر للفُرجة، وكانت مدة ذلك التاريخ الذي مَرَّ بلا أحداث عامًا إلا قليلًا، ولكنَّه كان أعجب عام في حياتي.
وانكشف أمري لأصدقائي جميعًا، أمَّا المُهرِّجون فسخروا مني وأطلقوا عليَّ «مجنون صفاء»، وأمَّا الآخرون فحذروني من التمادي في عاطفة لا جدوى منها البتة، وكنا صغارًا وكانت أفكارنا ساذجة مستعارة من الروايات، وما عرفناه من تاريخ الأدب العربي، فقال لي سرور عبد الباقي: لا تستسلم وإلا جُننت كمجنون ليلى.
وقال لي رضا حمادة: إنَّ حبَّك هذا يقطع بأنك أحببتها في تاريخ سحيق مضى، رُبما في عصر الفراعنة كما يقول ريدرهجارد.
وتمثل ذلك الحب في صورة قوَّة طاغية مُتسلطة لا تقنع بأقل من التهام الروح والجسد. قذف بي في جحيم الألم، وصهرني، وخلق مني معدِنًا جديدًا تَوَّاقًا إلى الوجود، ينجذب إلى كلِّ شيء جميل وحقيقي فيه. وبقي الحب — بعد اختفاء خالقه — ما لا يقل عن عشرة أعوام مُشتعلًا كجنون لا علاج له، ثم استكَنَّ على مدى العمر في أعماقي كقوة خامدة، رُبَّما حرَّكتها نغمة أو منظر أو ذِكرى فتدُبُّ فيها حياة هادئة مؤقتة تقطع بأنه لم يدركه الفناء بعد. وكلما تذكرت تلك الأيام أذهلني العجب، وتساءلت بدهشة عن سر الحياة التي عشتها، وهل كان أصابني مس من الجنون، وأسفت غاية الأسف أنه لم يقدر حبي أن يخوض تجربته الواقعية، وأن تتلاقى في دوامته العنيفة السماء والأرض، وأن أمتحن قدراتي الحقيقية في مُعاناته ومواجهة أسراره على ضوء الواقع بكلِّ خُشونته وقسوته، وما أحكم رضا حمادة حين قال لي يومًا وقد بلغنا درجة من النضج والتجربة: صفاء أُلقيت في حياتك كمثير … لم تكن إلا «شفرة» تُشير إلى شيء، تعيَّن عليك أن تحل رموزها للوصول إليه.
فقلت له: لقد تحللت حياتنا إلى سخريات، ولكني أكره أن أذكر تلك الأيام باستخفاف.
– استخفاف؟! كيف يستخفُّ إنسان بأروع سِني العمر؟!
ومررت بقصر آل الكاتب في الستينيات فوجدته قد هُدم ورُفعت أنقاضه، مُخلِّفًا أرضًا فضاءً تُحفر تمهيدًا لإقامة أربع عمارات سكنية. ابتسمت وأنا أنظر إلى الأرض الفضاء، وعبرني إحساس بالأسى، فتذكرت صفاء التي لم أرَها منذ هبوطها في ثوب العرس، التي لم أدرِ عنها شيئًا، حية كانت أم ميتة، سعيدة أم شقية، وكيف غيَّرها الكبر بعد بلوغ الستين؟ وأيًا كان خبرها، ورأي الآخرين فيها، ألم يكن من حقها أن تعرف أنها عُبدت في محراب كإله، وأنَّها فجرت في قلبٍ حياةً ما زالت تنبض بين الحين والحين بذكراها؟