صَقْر المنوفي
كان طبيعيًّا أن يُوصف عم صقر المنوفي بأنه الساعي بإدارة السكرتارية، ولكن جاء وقت كاد يُطلق على إدارتنا العتيدة بأنها إدارة عم صقر، وكان أقرب إلى القِصر والبدانة، ولكنه كان جم النشاط، بل فاق نشاطه عادةً المهام المطلوبة منه، وكان جاسوسًا بالسليقة، ولحساب نفسه، وفي أوقات تقديم قهوة الصباح كان يتطوَّع بالهمس مُفشيًا الأسرار، أسرار الوزارة والموظَّفين، ولعله كان أول من بصَّرني بالأسباب الحقيقية لترقية شرارة النحال من عامل تليفون إلى سكرتير لسعادة وكيل الوزارة، ثم انهمرت أنباؤه تباعًا عن عباس فوزي، وعدلي المؤذِّن، وعبد الرحمن شعبان، والآنسة عبدة سليمان، والرجل الطيب التعيس طنطاوي إسماعيل وغيرهم. قال لي يومًا الأستاذ عباس فوزي ونحن بصدد الحديث عن ارتفاع الأسعار وبؤس الموظفين ذوي المرتبات الثابتة في أيام الحرب: لا أحد يأكل ما يشتهي إلا عم صقر!
فأبديت الدهشة فقال: إنه مغرم بالطعام الجيد.
فقلت له: الغرام شيء والقدرة شيء آخر.
فقال بسخريته المعهودة: كأنه فِلْم مباحث، فما مِن فرح يُقام أو مأتم إلا وعنده عِلم به، وسرعان ما تجده بين العاملين في الفرح أو المأتم. يتطوَّع للخدمة ليشهد في النِّهاية وليمة العشاء، كذلك تجده في ليالي الموالد بالجوامع الكبرى، فما من ليلة تمر إلا وهو في وليمة، فأي باشا يُدانيه في هذا الحظ الغذائي منعدم النظير؟!
من ذلك جاء تألقه الدائم بالصحة والعافية، وغزله الرقيق باللحوم والفطائر والحلوى، أمَّا بقية مظاهر حياته فجرت في مستواها الطبيعي البائس كساعٍ مسكين، يُقيم في حجرة أرضية بعطفه دعبس بالحسينية هو وزوجته وأبناؤه، ولكن متى رسم خطة للإثراء؟ إذ من المحقق أنه رسم تلك الخطَّة وعمل على تنفيذها بصبر ودأب، رُبَّما منذ عهد التحاقي بالخدمة في أواخر عام ١٩٢٤.
انطلق في ذلك السبيل بادئًا من بيع قطع الحلي والنحاس ورثها عن أمه فتجمع لديه مبلغ من المال راح يستثمره في إقراض الموظفين بربح فاحش. وهو نشاط غريب بالنِّسبة لرجل مسلم من أهل البلد الفقراء، ولكنَّه أقدم عليه وتمادى فيه حتى النهاية، وعُرف بذلك في أوساط الموظفين الفقراء وما أكثرهم فأقبلوا عليه بنهم، وأصبح بذلك مركزًا لحركة مصرفية سرية، ونمت نقوده وتراكمت، وفي بحر ربع قرن من الزَّمان استطاع أن يشتري البيت الذي يسكن حجرته الأرضية بألف جنيه، ثم هدمه فأقام موضعه عمارة صغيرة مكونة من دورين ودكانين. وكان له ابنان وبنت، أهملهم إهمال الفقراء فعمل البكري فرَّاشًا في وحدة صحية بالريف، وانقطع كليةً عن أسرته، واشتغل الأوسط صبي قصَّاب، أمَّا البنت فقد اختفت وهي في سن المراهقة، قيل إنَّها خُطفت أو تاهت أو هربت، وما لبث ابنه الأوسط أن قُتل في مشاجرة بالمذبح، وحزِن عم صقر حزنًا عميقًا، واعتقد أن ما أصابه في بنته وابنه إنما هو عقاب من الله على إثرائه بالرِّبا فكفَّ عن الإقراض، وأدَّى فريضة الحج تائبًا. والعجيب أن تحسُّن حاله المالية لم يغيِّر مظهره ولا سلوكه العام في الحياة، بقي في وظيفته الحقيرة يقوم على خدمة الموظفين يُعتبر سيدًا لهم من الناحية الاقتصادية، ولبث يسعى إلى الأفراح والمآتم للاستمتاع بالولائم المجانية، وظل يتشمم الأخبار ليفشي الأسرار عند تقديم القهوة، فإذا خلا إلى نفسه غلبه الحزن على ابنته المفقودة وابنه القتيل. وأذكر أنني كنت في مأتم جعفر خليل عندما جاء عدلي المؤذن للتعزية، وجالسته بعض الوقت فقال لي: صقر المنوفي قُبض عليه!
فدهشت وسألتُ عن السبب فقال: الرجل جُنَّ ولا شك.
ثم قال: كان في مسكنه وحده فجاءت بنت الكواء ببدلته، فاعتدى عليها وهي قاصر!
وغاب عن ذاكرتي زمنًا طويلًا حتى رأيته مُقبلًا على مجلسي بمقهى الفيشاوي حوالي عام ١٩٦٠ بعد خروجه من السجن بأشهر. وكلما سألته عن حاله أجاب باقتضاب: الحمد لله.
وعلمتُ أنَّ زوجته توفيتْ وهو في السجن وأنه يعيش وحيدًا.
– سافرت لزيارة ابني ولكني لم أرتح، فرجعتُ بعد أسبوع واحد!
وجعلتُ أواسيه وأشجعه حتى قال: إني راضٍ بما حدث فهو جزاء حق ولكن لِمَ لا يعامل الله سبحانه بالمثل أشخاصًا مثل شرارة النحال أو عدلي المؤذن؟!