صَبْرية الحشمَة
كانت تُدير بدرب طيَّاب — حوالي ١٩٣٠ — بيتًا وأربع فتيات حِسان. وتأصلت بينها وبين سيد شعير صداقة متينة منذ ذلك العهد البعيد، قدِمنا إليها فصرنا من المقربين إلى المعلمة، وتمتعنا بامتيازات غالية، وكنَّا نشهد السهرات الخاصة — التي تبدأ بعد وقت التشطيب في الدرب — داخل البيت فنسمع الغناء ونشاهد الرَّقص، ونتمادى في السهر حتى مطلع الفجر، وكانت في الأربعين: لحيمة مهيبة، جذَّابة الملامح، ذات شخصية مُسيطرة تليق بالمعلمات. وكان مجرد حضورها كأنه قانون طبيعي، يخضع له كلٌّ في دائرته الخاصة، لا تجرؤ على الاستهانة به جارية أو قوَّاد أو زبون أو خادم. وأُعجب بها جعفر خليل، وعشقها شعراوي الفحَّام حتى اضطرَّ سيد شعير إلى أن يقول له: المعلمة تدير ولا تعمل.
فسأله: أتعني أنَّ حياتها خالية من الرِّجال؟
– كلا، المعلمة تعشق ولكنها لا تعمل بالأجرة، ولها رفيق رومي بياع نبيذ!
ولمَّا قامت الحرب العظمى الثانية كانت بين أوائل المعلمات اللاتي استجبن للتطورات الطارئة، فاستأجرت شقة كبيرة في شارع شامبليون وخصَّصتها للدعارة السرية، ووسَّعت دائرة نشاطها ففتحت مشربًا للخمور بشارع الملكة نازلي، واستفادت أكبر استفادة من الترفيه عن جنود الإمبراطورية البريطانية. وكشفت تلك الفترة المتوترة عن مواهبها في الإدارة حتى قال لي سيد شعير: خفت عليها من التوسُّع أن يفلت الزمام من يدها، ولكنها أمهر من الجِن الأحمر!
وكان يواظب على زيارتها ويحكي لنا عن مغامراتها أول فأول، فعرفنا كيف تاجرت في السوق السوداء فربحت أموالًا طائلة من الخمور والخردة. قال سيد شعير: إنَّها أقدر من وزير بالرَّغم من أنها أُمِيَّة، لا يفُوتها مليم من حسابات البيت والمشرب والتجارة، وتعرف العملاء بالاسم، ويا ويل من يحاول خداعها، وهي كريمة تجود بسخاء على العاملين معها من الموزِّعين والقوَّادين والفتيات، وكل شخص يُحبها ويحترمها ويعمل لها ألف حساب.
فقلت لرضا حمادة: ليت حكومتنا تتبع مثالها في معاملة موظفيها!
فضحك رضا حمادة وقال: هي عندي خير من صاحبنا المتدين زهران حسونة!
فقلت: بل هي عندي خير من كثيرين من الوزراء والزُّعماء الذين يقومون بنفس الدور مع الإنجليز، ولكن على حساب الوطن!
فقال جعفر خليل بأسًى: رَحِمَ اللهُ صَديقنا خليل شعراوي الفَحَّام فلعلها المرأة الوحيدة التي عشقها في حياته القصيرة.
وعند نهاية الحرب كانت قد جمعت ثروة طائلة، وأثبتت أنها أعقل من كثيرين، وكانت قد بلغت الخامسة والخمسين من عمرها، فصفَّت أعمالها، وأودعت في البنك ألوفها المؤلفة، وشيَّدت لنفسها فيلا في المعادي، ولكنَّ صاحبها الرومي قد توفي ولم يكن لها وريث ولا أهل، فعاشت عيشة هنية هادئة، ثم قررت تغيير حياتها جذريًّا، فأدت فريضة الحج، وأغدقت الخير على أصدقائها القدامى، وتبرعت كثيرًا للجمعيات الخيرية. وسمعت — عام ١٩٥٠ وهي في الستين — أنها تزوجت من شاب في الثلاثين، موظف بمصلحة المساحة فأدركت أن فترة الهدوء قد انطوت وأن فترة من القلاقل قد بدأت، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لم يبلغني عنها جديد؛ إذ إن زواجها أغلق بابها في وجه سيد شعير، وبالتالي انقطعت أخبارها عني.