طه عَنَان
ظهر في حياتنا ونحن في السنة الرَّابعة الثانوية، كان أبوه مأمور قسم شرطة بأسيوط، ثم نُقل إلى القاهرة مأمورًا لقسم الوايلي، مُتخذًا من العباسية مقامًا لأسرته، وتعرَّف طه عنان بأصدقائي جعفر خليل ورضا حمادة وسرور عبد الباقي من زملاء المدرسة الثانوية، ولكنَّ علاقته توثقت بي وبرضا حمادة فقط لاشتراك ثلاثتنا في العقيدة الوفدية والميول الثقافية. وقد اشترك في الإضراب الذي استشهد فيه زميلنا بدر الزيادي، ومما يُذكر أنَّ أباه كان ضمن القوة التي حاصرت المدرسة ثم اقتحمتها بعد ذلك بالقوة والعنف. وناقشنا موقف والده، وكان خجلًا منه ومتألمًا وجعل يدافع عنه فيقول: أبي وطني، مثلنا تمامًا، ويؤمن بمصطفى النحاس كما آمن بسعد زغلول، ولكنه يؤدي واجبه!
فقال رضا حمادة: سمعنا عن ضُبَّاط مثله انضموا إلى الثوار في سنة ١٩١٩.
فقال طه عنان مُدافعًا عن أبيه ما وسعه الدفاع: كانت أيَّام ثورة ولا ثورة الآن.
وكان يغلب على طبعه الجد فنفر من مزاح جعفر خليل. وكنا نقرأ معًا بعض كتب التراث، وكثيرًا من مؤلفات كُتَّاب العصر من قادة الفكر الجديد، كما كنا نناقش كل شيء بحرية وحماس. ونتطلَّع إلى مستقبل فكري واحد، وكان يؤمن بالكتب ويرجع إليها في كل ما يهمه من شئون الحياة، ولما اطَّلع على قصة حبي لصفاء الكاتب دهش وقال: ولكن حالك غير طبيعية!
فقلت باستياء: ولكنها واقع!
– أنا أحبُّ أيضًا ابنة عمي، ونفكر في إعلان خطوبتنا!
واتباعًا لأسلوبه في الرجوع إلى الكتب مضى بي إلى دار الكتب ورحنا نقرأ معًا عن كلمة «حب» في دائرة المعارف البريطانية، ثم قال: هذا هو الحب من جميع نواحيه الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية، ومنه ترى أنَّ ما بك ليس حبًّا ولكنه جنون.
فتمتمت بحنق: جنون!
فابتسم قائلًا: لا تغضب، رُبَّما احتجنا لقراءات أخرى!
ولكنا لم نواصل القراءة عن الحب، وقرأنا كثيرًا — وخاصَّةً في العطلة الصيفية — عن حقائق جديدة ومتنوعة، وكل شيء كان جديدًا، وتعرضنا لأزمات نفسية وعقلية وحشية، وزُلزل قلبانا زلزالًا.
واقترح عليَّ اقتراحًا عجيبًا، ونحنُ جالسان في مقهى الفيشاوي قال: علينا أن نبدأ من العدم!
– من العدم؟
فقال بثقة لا تتفق مع انهيارنا: لا سبيل إلى ما مواجهة هذا العذاب إلا بأن نبدأ من الصفر.
ورمقته بنظرة مُتسائلة بالرَّغم من أنني أدركتُ ما يعنيه فقال: من الصفر، ثم نستعيد قصَّة الحضارة من جديد مُعتمدين على نور العقل وحده.
فسألته: وإن صادفتنا أشياء لا يفصل فيها العقل بحكم؟
فقال بحماس: لنبدأ بالعقل باعتباره الإنسان ولننظر أين يذهب بنا.
وواصلنا رحلتنا طوال العامين الأولين من حياتنا الجامعية. واعترضتنا أحداث لم تخطر لنا على بال، فقد ألغى إسماعيل صدقي دستور ١٩٢٣ وهبَّ الوفد لمُحاربته بكل قواه الشعبيَّة.
وكان ثمة يوم رهيب بلغ التوتر فيه مداه، احتُلت مفارق الطرق بقوَّات الشرطة والجيش. ولم يتمكن الشعب من التجمُّع الذي يصلُح أساسًا لمظاهرة ضخمة، فعمد الناس من جميع الطبقات إلى التجمد في الحواري والأزقة والشوارع الجانبية، ومنها يندفعون بقوَّة هاتفين ملقين بالطوب في جميع الجهات، ثم يتفرقون بسرعة ليعيدوا الكرَّة والرصاص يطاردهم، اشتركنا في مظاهرات ذلك اليوم أنا وطه عنان ورضا حمادة، اشتركنا من أوَّل اليوم في التجمعات المُتفرقة والانقضاضات المُباغتة والتفرقات السريعة على أنغام الرصاص المتطاير. وشاهدنا المئات وهم يسقطون، كما شاهدنا الجنود وهم ينقضُّون عليهم كالنسور فيحملونهم بعنف غير إنساني، ويلقون بهم في اللوريات، ويطمسون آثار دمائهم فوق أديم الأرض بالرمل والأتربة، وقبيل المغرب خفَّت حِدة القتال، وندر ظهور التجمعات، ولكن لم يخلُ الجو من هتافات متقطعة متباعدة ومن طلقات نارية قليلة ولكن مستمرة. وقررنا العودة إلى بيوتنا فسرنا معًا مُخترقين شارع حسن الأكبر، سرنا متشابكي الأذرع من شدة الإعياء، ونحن نتصبَّبُ عرقًا، وقال طه عنان وهو يتوسطنا: منذ أشهر والشعب يُقاوم، والضحايا يسقطون بلا حساب ولا مبالاة.
فقال رضا حمادة: إنه سفاح مُتعطش للدماء!
فقال طه: على أي حال فإيجابية الشعب خير من المناقشات الباردة التي نسمعها في صالون أستاذنا الدكتور ماهر عبد الكريم.
وثقل بين أيدينا حتى سألته: هل غلبك التعب؟
ولكنَّه ثقل أكثر دون أن يُجيب فالتفتنا نحوه فرأينا فاه ينفث دمًا غزيرًا، صاح حمادة: أُصيب برصاصة.
لم تكن الطلقات قد سكتت، ورأينا لافتة طبيب أسنان فحملناه إليها، ونحن نرتعش من الاضطراب، وكانت العيادة خالية ولكن التمرجي أنامه على كنبه وهرع إلى التليفون لطلب الإسعاف.
ولَفَظَ طه أنفاسه الأخيرة بين أيدينا قبل أن يصل رجال الإسعاف.