أماني محمد
كان التليفون واسطة التعارف بين أماني محمد وبيني، بدأت حديثها بالتحيات والمجاملات المعروفة، واستأذنتني في طرح أسئلة عن بعض المناقشات التي تتابعها في التلفزيون، وآنست منها اهتمامًا بالفن ورغبة في التزود ببعض المراجع وحماسًا للقاء تتم به الفائدة. دعوتها إلى مكتبي، ولكنها عالنتني بنفورها من جو المكاتب، واقترحت لقاءً في الخارج، وتم اللقاء في استراحة الهرم في أواخر ربيع عام ١٩٦٥. توقعتُ أن تجيئني طالبة أو خريجة حديثة العهد بالتخرج، ولكن التي أقبلت كانت امرأة ناضجة، في الأربعين، ريَّانة البدن ملونة العينين، تخطر على الحد الفاصل بين حرية المرأة العصرية وبهرج الغانية. ولدى رؤيتها غازلني شعور مستفز بأن الفن لن يكون — وحده — ثالثنا، لم يهزني قبول ولا صدني رفض، فسلمت أمري للظروف، جلسنا في طرف الحديقة المطل على المدينة، ونظراتنا المتبادلة تعكس الحياء والترقب، قالت بلسان يحوِّر الراء غينًا: معذرة عن جرأتي.
ثم كالمستدركة: كان لا بد أن أقابلك.
فأكدتُ لها سروري باللقاء فقالت: إن فراغ حياتي لن يملأه إلا الفن، ومن حُسن الحظ أنني لا أخلو من استعداد.
– سيدتي موظفة؟
– كلا، ولا حاصلة على شهادة عالية، الثانوية العامة فقط، ولكني قارئة ممتازة، وكتبتُ أكثر من تمثيلية إذاعية.
– لم يُسعدني الحظُّ بسماعها.
– لا غرابة في ذلك.
وتفضَّلتْ بإغداق الثناء، فشكرتُ لها تقديرها فقالت: إني بحاجة إلى مَراجع تاريخية لأواصل الكتابة.
– مطلب يسير فيما أعتقد.
– أود أن أكتب عن أشهَر نساء الشرق، وبخاصة اللاتي لعبن أدوارًا خالدة في الحب.
– موضوعات شائقة.
فابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت: أطمع أن تشترك معي في العمل ..؟
فاعتذرت بلا تردد قائلًا: إني مشغول بأعمال أخرى.
– ممكن أن تمُدَّني بالمراجع والمادة العلمية، وأن تشترك فيما يعجبك من الموضوعات.
– سأهديكِ إلى المراجع.
ولكنها تجاهلت اعتراضي، وقالت وهي ترمي بنظرتها إلى رءوس أشجار الحور تحتنا: سنعمل في الحدائق.
ثم بعد توقف قصير: إلا إذا تفضلت بتشريف بيتي.
نجحت الغزوة الجديدة في اقتحام ترددي فتساءلت: بيتك؟
– لم أُعرِّفك بحالتي الاجتماعية، إني مُطَلَّقة، أقيم مع خالتي العجوز، ولي ابن وابنة يُقيمان مع والدهما.
– لكن خالتك؟!
– لا عيب في العمل.
ثم وهي تنظر بعيدًا: يمكن تدبير الأمر لنهيئ جوًّا صالحًا للعمل.
– ولكن …
– ولكن؟
– أصارحكِ بأنَّه من المؤسف ألا تنعم سيدة مثلك بحياتها الزَّوجية.
فقالت بامتعاض: لم تكن حياة موفقة، ولا يومًا واحدًا.
– عجيبة.
– علَّمني كيف أمقته، ولم أُحِبُّه من قبل.
– ولِمَ قبلتِ الزَّواج منه؟
– زُوِّجت إليه، وأنا بنت ستة عشر، أبعد ما تكون عن النضج وبلا وزن لرأيي.
– زيجات سعيدة كثيرة بدأت كذلك.
– إنه أناني نذل متوحش.
لم تشأ أن تنتقل من العموميات إلى التفاصيل ففتر اهتمامي بالموضوع، وبخاصَّة وأنه أصبح من ذكريات ماضٍ بدا أنَّه ذهب إلى غير رجعة، حتى الفن نفسه تراجع إلى الهامش وذاب في الظلام. وبحركة غير متوقعة تسللت يدها البضة فاستقرت فوق يدي على طرف المائدة: إني في حاجة إلى إنسان أطمئن إليه.
ورغم احتمال المبالغات بل والأكاذيب فإني شعرتُ نحوها بعطف ورثاء. ومع ذلك سألتها مُداعبًا: يهمك الفن لهذا الحد؟
فقالت ضاحكة: الفن والحياة!
ولكننا نسينا الفن والتاريخ ونحن نتجول في صحراء الهرم. تركزت همومنا في الواقع المعاصر، واقع البيت بالذات، وخالتها بصفة خاصة، سنها الطاعنة، ونومها الثقيل، وحواسها الضعيفة.
– إلا إذا أردت أن نلتقي في بيت آخر!
وباندماجي في المؤامرة تدفق طوفان الرَّغبة في دمي فقلت: ليكن اليوم.
ولكنها قالت بسرور وبلا مكر: أمهلني حتى أهيئ الجو.
وعندما جمعتنا الحجرة هفَّت على حواسي أخلاط روائح مركزة من العطر والبرفان، والخمر، تسبح في أمواج نور أحمر خافت، فردتني إلى ذكريات بعيدة ما كنتُ أتصور أنها ستعود، وجدتُني مرة أخرى موثقًا بالحرير، مذعنًا لرغبة سكري بيقظة مباغتة، وبلا حب بالمعنى الحقيقي. أما أماني فكانت متفانية في المودة، اهتدت إلى مرفأ بعد تخبُّط في ليل بهيم، لهفة بلا حدود على الحب والحنان يزفرها قلب محروم من الحب والأمومة والثقة. وجعلت تصارحني بخباياها في لقاءاتنا المتتالية: حالتي الماليَّة حسنة، ليس لديَّ ما أشكوه من هذه الناحية.
أو تقول: ربنا يسامح بابا ويرحمه، كان السبب.
أو تقول: لا أمان لشُبَّان هذه الأيام، ربنا يحفظ بنتي.
وتضخَّم شعوري بالمسئولية، وكان يستفحل كلما تذكَّرت بأنَّ حياتنا المشتركة تقوم على غير أساس مشترك، وأنَّه لا يمكن أن تمضي هكذا إلى الأبد، وأن العطف والجنس لا يكفيان لاستتباب الأمن في أسرتنا ذات الجناح الواحد. وذات يوم من أيام العام نفسه — أواخر الصيف أو أوائل الخريف — زارني في مكتبي الأستاذ عبده البسيوني، تذكَّرته من أول نظرة رغم التغيُّر الهائل الذي طرأ عليه، ورَحَّبْت به بحرارة كأننا لم نفترق حوالي ربع قرن على الأقل. تُرى ماذا غَيَّره بهذه الدرجة، رغم أنه لا يكبرني بأكثر من بضعة أعوام؟ وسألته: ماذا تفعل الآن؟
ولكنه تجاهل سؤالي وسأل بدوره: لعلك تسأل عما دعاني إلى زيارتك بعد ذاك العمر من الانقطاع؟
فقلت ببراءة: لعله خير يا زميلي القديم.
فقال وهو يرمقني بهدوء: إني أزورك بصفتي زوج أماني محمد!
مرَّت ثانية وأنا لا أعي لقوله معنًى، وفي الثانية التالية انفجر معناه في وعيي كصاروخ. الحق أني غبتُ عن الوجود بمعنًى ما، تلاشى المكان والزَّمان، لم أعد أرى إلا وجه عبده البسيوني الأسمر المستدير، كأنه وجه شخص آخر، وجه تمثال يقوم أمام مكتبي منذ الأزل. لم أنبس بكلمة، وطبعًا لا فكرة لي عن الصورة التي انطبعت فوق صفحة وجهي، ولكنَّه هز رأسه بهدوء وقال بنبرة مستأنسة: لا داعي للجزع.
وابتسم ابتسامة ما وقال: لا عِلْم لك بشيء.
ثم بتوكيد: لم أحضر للانتقام.
مضيت أرجع إلى مقعدي وحجرتي، ولكن شعورًا حادًّا اجتاحني بأن دنياي على وشك التصدع والتلاشي.
وسمعته يقول: من حُسن الحظ أنَّ الأيام التي عشتها في باريس لم تضع عبثًا!
وقلتُ وأنا مستسلم تمامًا للمقادر: لعلك تعني امرأة أخرى.
– أعني المرأة التي كنت عندها أمس!
– ولكنها مُطلقة!
– بل هي على ذِمَّتي وأنا زوجها!
فغمغمت: يا لها من كارثة!
– لم أزرك بدافع غضب أو انتقام.
– ولكني أموت أسفًا وحزنًا.
– لا ذنب عليك.
ثم بامتعاض شديد: وما أنت إلا آخر صيد لها!
– ماذا؟
– مَرَّة ومرَّة ومرَّة، وفي كل مرَّة أتدخَّل لإنقاذها من التدهور، لإنقاذ مستقبل ابني وابنتي.
– يا لها من حياة! … ولكن …
وتريَّثت مُرهقًا ثم عدت أتساءل: ولِمَ تتحمَّل ذلك كله؟
– لا مفر، إني أرفض تطليقها رغم مطالبتها به.
– لِمَ؟
– هي أم ابنتي وابني، وهما في طور المراهقة، والطلاق يعني لها التدهور حتى الاحتراف!
– قد تتزوج مرة أخرى.
– لم تَعُد أهلًا لذلك!
– موقف عسير محزن.
– لذلك فإني مُصمم على استردادها، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن حُسن الحظ أن حياتي في باريس لم تضع هدرًا!
فقلت بحزن: ما أبغض الحياة إذا فسدت!
– أجل، لعلها حدَّثتك عني، وعندي أيضًا ما أقوله، ولكني مصمم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فقلت متأسفًا: ما تصوَّرتُ يومًا أن أقف منك موقفي هذا!
فلم يكترث لأسفي هذه المرَّة. أشعل سيجارة وراح يدخن متفكِّرًا، بدا لي هرمًا متهدمًا، ثم نظر إليَّ قائلًا: أنت تذكر بلا شك حياتي الماضية!
أجل أذكر، زمالته في الجامعة، سفره إلى باريس في بعثة خاصة على حسابه، عودته بعد عامين أو ثلاثة بلا نتيجة، انتخابه عضوًا بمجلس النواب، تمتعه بجاه الأسرة والحزب والنيابة، قلت: طبعًا أذكرها.
فقال: لما قامت ثورة يوليو لم أجد تناقضًا بينها وبين فكري الحر.
– معقول جدًّا.
– وعملت في نطاقها بإخلاص، ولكني اتُّهمت ظلمًا في مؤامرة اتُّهم بها بعض أقطاب الحزب فقُبض عليَّ حينًا ثم صودرت أملاكي.
وَجَمْتُ لا أجد ما أقوله فقال: وجدت نفسي في الطريق متسوِّلًا!
– ولكنَّ حرمك ذات مال!
فضحك قائلًا: أفقر من الفقر نفسه، لها خالة غنية ولكن لها وريثًا، ولعلها كذبت عليك في ذلك أيضًا.
وشملنا الصمت حينًا حتى قلت: أذلك ما أفسد حياتكما؟
– كلا، لقد توثبت للعمل الجدَّي من أوَّل يوم، كرَّست وقتي وما أزال للترجمة والاقتباس، واستعنت على النشر ببعض الزُّملاء القدامى المنتشرين في الصحف والمجلات، غير أنَّ أخلاقي تغيَّرت في سياق المحنة، ونشب نزاع متواصل بيني وبينها.
– ولكن تلك أمورًا طارئة يمكن معالجتها.
– كان قد فسد الأمر.
– خسارة فادحة وغير مقنعة.
– إنها حمقاء، غير جديرة بالمحافظة عليها، لولا مصلحة ابني وبنتي.
وصمت لحظات ثم قال بنبرة اعتراف: ضربتها مرَّة وأنا فريسة لجنون الغضب فلم تغفرها لي.
– يؤسفني ما صادفك من سوء حظ.
فقال بنبرة متجددة: إني أطالبك بقطع علاقتك بها.
فقلت وأنا لا أصدِّق بالنجاة: طبعًا.
– وأن تحاول إقناعها بالرجوع إلى بيتها.
– سأبذل جهدي وفوقه.
فقال وهو يُلوِّح بحركة قاطعة: حسبنا كلامًا في هذا الموضوع البغيض.
تنفَّست من الأعماق. وجعل يتذكَّر عهدنا القديم. وذكر فيمن ذكر الدكتور إبراهيم عقل، وأستاذنا الدكتور ماهر عبد الكريم. قال: لقد انقطعتُ عن صالونه منذ سفري إلى باريس، ولكني زرته مرارًا زيارات خاصَّة، وأُفكِّر في الرجوع إلى اجتماعات الصالون.
وهزَّ رأسه قائلًا: لقد ضاعت أراضي أسرته في الإصلاح الزراعي، وباع قصر المنيرة وابتاع فيلا في مصر الجديدة، انتقل إليها صالونه العتيد.
– أعرف ذلك فأنا من المترددين عليه بانتظام منذ عام ١٩٣٠.
فراح يُنوِّه بنشاطي وتقدمي ثم قال: إني أكدح بلا انقطاع للمحافظة على كرامتي.
– أنت مثال طيب.
– ولديَّ مشروعات ترجمة لا حصر لها .. كُتب .. مسرحيات .. قصص سينمائية.
– عظيم .. عظيم.
– ولكن تلزَمُني عقود مع المؤسسات الثقافية.
– اعرض ما لديك.
فسكت قليلًا ثم قال: قيل لي إنَّه لا جدوى من العرض وحده؟
فتساءلت متبالهًا: ماذا تعني؟
– قيل إنَّ الوصول قد يقتضي مالًا ولا مال لديَّ!
– لا تُصدق جميع ما يُقال!
– أو أن أكتب مقالات نقدية تقديرًا للبارزين في المؤسسات.
– قلت لا تصدق.
– أنا على استعداد لتقرير أنَّ أيَّ بغل فيهم أعظم من أحمد شوقي، ولكنَّ المتنافسين في التقدير لم يدعوا مجالًا لشخص مثلي، لم يُعرف كناقد من قبل! .. وفضلًا عن ذلك فلست إذاعيًّا ولا تلفزيونيًّا؛ لأدعوهم إلى برامج أو أعرض أعمالهم، فلم يبقَ أمامي إلا الطريق الطبيعي، وهو كما تعلم غير طبيعي.
وضحك لأوَّل مرة فشعرت بالنَّجاة أكثر، وحاولت تبديد ظنونه وتشجيعه. وقام وهو يُذكِّرني بمطلبه الأصلي فقلتُ له: سأبذل ما فوق طاقة الإنسان.
وقد بررت بوعدي. وما إن طرقت الموضوع حتى هتفت أماني: الوحش وصل إليك!
واحترقت عيناها بنار الغضب فذكَّرتها بواجبها نحو ابنها وابنتها فصاحت: أنت لا تعرفه!
فقلت: بل أعرفه من قديم، ليس شيئًا كما تتوهَّمين، وهو خير من كثيرين.
– كلا .. أنت لا تعرفه.
فأصررت على نصحها فصاحت: كفى .. لا تضطهدني.
– بل لي عليك عتاب، كيف تخفين عني علاقتك الزَّوجية وأنتِ تعلمين أنه يطاردك؟
فهتفت: لا غيرة عنده ألبتة!
– إنَّه يُحب ابنه وابنته.
– بل يحب نفسه وحدها.
– المسألة …
فقاطعتني بحدة: المسألة أنك لا تحبني.
ثم وهي تُجفف عينيها: مات الحب في هذه الدنيا منذ زمن بعيد.
ثم رمتني بنظرة عتاب وقالت: لم تقل لي إنك تحبني ولا مرة واحدة، ولكني لا ألومك.
فقلت مُعتذرًا: أنتِ تستحقين الحب أمَّا أنا فلم أعُد أهلًا له.
– كلام .. كلام .. كلام.
– ستجدين في بيتك ما هو أهم.
رجعتُ وفي أعماقي شعور بالتحرر والنجاة والندم، ثم اجتاحني حزن عميق. وظلَّ إحساس حاد بالرثاء يطاردني نحو زميلي القديم عبده البسيوني وزوجه أماني محمد، وتوقَّعتُ أن يتصل بي ولكنه لم يفعل، وأردتُ أن أتصل بها لأطمئن عليها، ولكني لم أجد فرصة ولا وسيلة، والتقيت بعد ذلك بأزمنة متفاوتة وفي أماكن مختلفة بعبده البسيوني، فأشعرني سلوكه بأنه يتقدم في طريقه المرسوم بإرادته الكادحة. وفي ١٩٦٨ أو ١٩٦٩ وكنتُ سائرًا بشارع رمسيس أمام مبنى التليفون وجدت أماني مُقبلة نحوي على بُعد خطوات! وبحركة عفوية مددت يدي فصافحتني بلهوجة وارتباك أشعراني بتسرعي وخطئي، وهمست معتذرًا: إن شاء الله تكونين بخير!
فأجابت وهي تمضي: الحمد لله.
تبدَّت مفرطة في البدانة والرزانة، غير أنَّ ارتباكها أقنعني بأنها تعاني مسئولية السيدة المتزمتة إذا ورَّطتها ظروف خارجة عن الإرادة في مصافحة رجل «غريب».