عَدْلي المؤَذِّن
عندما التحقتُ بالجَامعة كان موظفًا بها، وكنتُ ألتقي به كثيرًا في مكتبة الجامعة، كما كان يحضر معنا محاضرات مسيو كوريه في الفلسفة تحصيلًا لبعض فوائد رآها ضرورية في تحضير رسالة الماجستير. وكنا ندعوه «الكاتب المصري» للشبه العجيب الذي بينه وبين وجه التمثال المعروف بالكاتب، غير أنَّه كان طويلًا عريض الكتفين ذا وجه أسمر غامق تتحرك فيه حركة مُتحدية برَّاقة عينا صقر يشعان ذكاءً ودهاءً، التقينا مَرَّة في حديقة الأورمان ونحن سائران إلى الكلية فتصافحنا، وأخذنا في الحديث، قال: سأُقدِّم رسالة الماجستير في أكتوبر القادم، ولكني أُفكر منذ الآن في الخطوة التالية.
فسألته: الدكتوراه؟
– كلا، هل لك فكرة عَمَّا يُمكن أن يروج من الكتب الفلسفية؟
– لا أعتقد أنَّ الكتب الفلسفية توضع للرواج.
– ولكن إذا أصدرنا سلسلة من الكتب عن ضحايا الفكر الحر في الفلسفة والتصوف ألا نُسهم بذلك في الدفاع عن الحرية المُغتالة في هذا العهد؟
فقلت بحماس: فكرة بديعة.
– وناجحة، أليس كذلك؟
– بكل توكيد.
ولكنَّه حصل على الماجستير، ولم يُنفِّذ فكرته، ولم ينشر من الكتب إلا تحقيقًا لتهافت الفلاسفة وتحقيقًا آخر لتهافت التهافت، وكان زميلي في الكليَّة عجلان ثابت، هو الذي أطلعني على جانب من ماضيه المجهول، قال: إنه يسكن معنا في حي السيدة، وكان أبوه سائق ترام، وهو يعيش اليوم مع أمه وشقيقته.
فقلت: إنَّ مظهره المهيب الرزين يقطع بأنه من سلالة حُكام!
فضحك عجلان ثابت وقال: توظَّف بالابتدائية ثم درس وهو موظف حتى بلغ ما بلغه من العلم.
ثمَّ همس: ويبدو أنَّ شقيقته بنت لعوب عفريتة، ولذلك فاتها سِن الزَّواج ولم تتزوج!
ولم يكن يخلو من جانب مزاح، ففي أحد احتفالات آخر السنة بالكلية تطوَّع لتقليد بعض الأساتذة، ونجح في تقليد الدكتور إبراهيم عقل نجاحًا مُثيرًا، فما كاد يتكلم عن المُثل العليا حتى دوَّت القاعة بالتصفيق الشديد، ومع ذلك كانت علاقته بالدكتور إبراهيم عقل وثيقة، ولمَّا ولي الدكتور منصبه الخطير نتيجة لتقرُّبه من السراي اعتمد في إدارته على عدلي المؤذن، وهو الذي قدَّمه إلى أحد الوزراء قبيل الحرب العظمى الثانية، فنقله الوزير إلى وزارته مُفسحًا لطموحه مجالًا جديدًا، أحفل بالفرص من إدارة الجامعة، هكذا وفد إلى وزارتنا كرجل خطير من رجال الوزير، وزُرته مُهنئًا ومُستبشرًا بقدومه خيرًا، ولكنِّي وجدتُ فيه شخصًا جديدًا، شخصًا إداريًّا خطيرًا مقطوع الصلة تقريبًا بالرَّجل الذي كان يتلمس طريقه بمشقة بين مسالك الفلسفة .. وتجلَّت مواهبه الكامنة في خدمة الوزير والوزارة، وكان — والحقُّ يقال — حادَّ الذكاء ذا مقدرة إداريَّة فَذَّة، وكان بارد الأعصاب لدرجة لا تُصدق، ولم تُعهد عادة بين المصريين، ومنذ أول يوم شعر شرارة النَّحال بخطورته، وعَمِل له ألف حساب وحساب. وخُيِّل إلى الأستاذ عباس فوزي أنه طرأ على الوزارة موظف خطير مثقف لأول مرة، وأنَّه يحسن به أن يهدي إليه مؤلفاته، وفعل، وقال له وهو يهديها إليه وبحضوري إذ كنت أنا الذي قمت بالتعارف بينهما: ليس من عادتي أن أهدي كتبي إلى أحد، ولكن الكتب لا تؤلَّف إلا لتُهدى إلى أمثالك!
فقال عدلي المؤذن ببروده النَّادر: أعترف لك بأني اطَّلعت عليها.
فشاع الفرح في وجه عبَّاس فواصل الآخر قائلًا: وأعترف لك بأني وجدتها سطحية لم تكد تُضيف إلى الأصل إلا قليلًا.
فاصفر وجه عبَّاس فوزي غير أنه قال متظاهرًا بالمرح: لا تحكم بعقلك يا أستاذ، نحن نكتب للبسطاء لنعلمهم، أمَّا الفلاسفة فلا سبيل لنا إليهم.
وعدنا إلى الإدارة والرجل يقول لي في الممشى: لا تخبر بما سمعت أحدًا من الرِّعاع.
فقلتُ له برثاء خفي: طبعًا.
فقال مستردًّا طبعه الساخر: بدأت الفلسفة بابن رشد وانتهت بابن كلب!
وفي مدة وجيزة أحاط عدلي المؤذن بشئون الوزارة والموظفين، وكان يشغل وظيفة رئيس المكتب الاستشاري، فاتَّصل بحُكم عمله بجميع فروع الوزارة، وأثبت في العمل طاقة خارقة، واستحقَّ بعمله الثقة كل الثقة دون انزلاق إلى سراديب الحزبية، مع الاحتفاظ لشخصيته بالاحترام، ومع عدم الحيد إلى ما يَمَسُّ الكرامة إلا عند الضرورة القصوى، فرفع الوصولية إلى أرفع مراتبها، وكان في أعماقه مَيَّالًا للوفد وقِيَمه الشعبية والديمقراطية والاستقلالية، ولكنه كتبها في الأعماق، وتغلب عليها بقوة أعصابه الباردة. ولم يُعرف عنه أنَّه صنع خيرًا في حياته، ولم يتورَّع عن إيذاء شخص طالما وسعه ذلك، وكان بلا شك يُجد سعادة خاصة في الشر والتحدي والإيقاع بالخصوم، بل وبالأصدقاء، ولم يكن يهمه أن يكون محبوبًا، وخُيِّل إليَّ كثيرًا أنه يعمل بشغف على أن يكون موضع النقمة والبغض والحسد، وهو يختلف في ذلك عن شرارة النَّحال الذي آثر بعض الأذناب بالعطف، والذي حَرص دائمًا على معسول الكلام حتى وإن دسَّ فيه السم، والذي سعى إلى نيل الثقة ولو بالكذب والنفاق؛ لذلك كره الموظفون عدلي كإبليس، وتهامسوا بنقاط ضعفه كأصله وسيرة أخته، ومنهم من فسَّر عزوبيته بشذوذ جنسي يُخفيه بصرامته وعنجهيته، ولذلك فإنَّ الموظف الوحيد الذي ساعده كان شابًّا جميلًا مُنحلًّا، وطالما ساءلت نفسي حائرًا كيف أمكنه المحافظة على كرامته ووظيفته بالرغم من تتابع الوزراء والأحزاب عليه؟ وبالبحث والتحري، ولمعرفتي الوثيقة به، علمتُ أنه كان يبسط حمايته — وقت إقبال الدنيا عليه — على عدد محدود من موظفي الأحزاب المختلفة، حتى إذا أقبلت دنيا الأحزاب على أحدهم ردَّ الجميل إليه فزكَّاه عند وزيره، بذلك احتفظ بمكانته في جميع العهود مُعللًا فوزه بكفاءته الشخصية وحدها، وظل يترقَّى من درجة إلى درجة حتى عُيِّن مُديرًا عامًّا قبل ثورة يوليو. ورغم صلتنا القديمة وزمالتنا العلمية لم يتورَّع عن التضحية بي في أول فرصة سنحت، كان ذلك عندما رشحتني لجنة شئون الموظفين لدرجة خالية بعد مقارنات طويلة بيني وبين منافسي الذي كان كاتبًا بالسجلات، ورفعت اللجنة قرارها فوقَّعه الوزير وغادرتُ الوزارة مُترقبًا مُتلقيًا التهاني، ولمَّا رجعتُ إلى الوزارة صباحًا فوجئت بإلغاء القرار وترقية المنافس بدلًا مني، كدتُ أفقد عقلي، وبالبحث علمت أن موظفًا كبيرًا بديوان جلالة الملك اتصل مساء أمس بالأستاذ عدلي المؤذن موصيًا بمنافسي، فما كان منه إلا أن سارع إلى مقابلة الوزير — والعهد كان ملكيًّا — وأخبره بالتوصية، وفي الحال تَمزَّق قرار ترقيتي وتَحرَّر قرار جديد بالترقية الجديدة، وذهبت إلى عدلي المؤذن مُنفعلًا وناقشته فيما سمعت من أنباء ولكنه ظل طيلة الوقت صامتًا باردًا حتى تعبت وبخت، ثم قال لي بهدوء: أعِدُّوا بيان الميزانيَّة الجديدة للنشر في الصحف!
وعرفت أمورًا أكثر من وكيل المستخدمين الذي كان له صديقًا كما كان لي عدوًّا، قال لي: ما حصل يعتبر مُخالفة صريحة للقانون، فالقرار الوزاري لا يجوز تغييره إلا بقرار وزاري مثله، وقد اطَّلعت بنفسي على قرار ترقيتك، فمتى صدر قرار آخر بإلغاء الترقية؟
فسألته: ألا تستطيع أن تثير المسألة رسميًّا؟
فقال ضاحكًا: هيهات أن يستطيع ذلك إلا السفير البريطاني نفسه!
فسألته بدهشة: ولكن ما علاقة الموظف الآخر، وهو على قد حاله مثلي تمامًا برجل السراي الخطير؟
فقال ضاحكًا: صَلِّ وسلِّم على سيدنا لوط!
ومنذ ذلك الموقف فترت علاقتي به حتى كادت تقتصر على العمل الرَّسمي، قبل ذلك كنا نلتقي صباحًا في ميدان سليمان باشا، نسير كزملاء رغم فارق الدرجة، فنتناول فطورنا في الأميركين، ثمَّ نمضي في طريق الوزارة مُعلقين على الأحداث والمارَّة والأشياء، ويبدو في تلك الفترة لطيفًا ودودًا ضاحكًا مُحبًّا للمزاح حتى ليقص عليَّ آخر ما سمع من النكات السياسية عن الملك وحاشيته وأسرته، أو يدعوني إلى زيارته في مسكنه الجديد بالمعادي الذي انتقل إليه بعد صعوده السريع، ثم قد يستدعيني إلى مكتبه بعد ذلك بربع ساعة؛ فيطالعني بوجه جديد، وجه صارم بارد مجرد، يأمر ويكلِّف وينذر بلا رحمة ولا ذوق! وأغادره وأنا أضرب كفًّا على كف، ومرة فضفضت نفسي فبُحت بما يكربني للأستاذ عباس فوزي فقال لي: عنده انقسام شخصية ابن القديمة، نحن موعودون في هذه الوزارة بكافة أنواع الشذوذ.
ولما قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ تهيَّأت له فرصة للتخلص من شرارة النحال أكبر منافس له على وكالة الوزارة. وأشهد أنه كان وراء بعض العرائض التي قُدِّم بها شرارة إلى لجنة التطهير، ولكن الرَّجل نجا بأعجوبة ورُقي وكيلًا للوزارة، فتلقى عدلي المؤذن أكبر ضربة وُجِّهت إليه في حياته، وسرعان ما وجد نفسه غريبًا بين موظفين جُدد لم يعرف لهم أصلًا ولا فصلًا، اختفى أغلب معاونيه في التطهير، واستقبل حياة جديدة بكل معنى الكلمة، ورجع يخطب ودي كما كان يفعل في حديقة الأورمان، ورجعنا نتلاقى في ميدان سليمان باشا وراح يقول ساخرًا: لقد سقطت الوزارة في أيدي جماعة من الغلمان!
أو يقول: ما قيمة أن تعرف القوانين والأصول الإدارية؟
ممكن أن تفعل الآن أي شيء كما تشاء، وكيفما تشاء باسم الثورة!
وشعرتُ لأوَّل مرة في حياتي بأنَّ موجة من العدالة تجتاح العفونة المُتَّصِلة بلا هوادة، فتَمَنَّيت أن تواصل سيرها بلا تردد ولا اعوجاج، وفي نقاء وطُهر إلى الأبد، وحاول الرجل التسلُّل إلى القيادات الجديدة، ولكنه لم يُفلح. وما لبث أن أُصيب بسرطان الدم فاعتكف في بيته فترة ثم وافاه الأجل حوالي عام ١٩٥٥. ولا أنسى ساعة انتشار خبر وفاته في الوزارة، فقد خرج الموظفون على تقاليدنا المرعيَّة، وسمعت العشرات وهم يقولون بأصوات مرتفعة شامتة: الله يجحمه!
– في ألف داهية!
وكانت جنازته أفقر جنازة شهدتها، شيَّعها عشرة أنفار، قريب واحد وتسعة من زملائه القدامى بالجامعة، وحضرها رجل ذو شأن هو الدكتور إبراهيم عقل في عهد دروشته التي أدركته بعد وفاة ابنيه وقبيل وفاته، وعقب وفاة عدلي المؤذن بيوم واحد انتحرت شقيقته العانس.