عَبْد الوَهاب إسْمَاعِيل
إنَّه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، وبالرَّغم من أنني لم ألقَ منه إلا مُعاملة كريمة أخويَّة إلا أنني لم أرتح أبدًا لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين، وقد عرفته في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم في أثناء الحرب العظمى الثانية، كان في الثلاثين من عمره، يعمل مدرسًا للغة العربية في إحدى المدارس الثانوية، وينشر أحيانًا فصولًا في النقد في المجلات الأدبية أو قصائد من الشعر التقليدي. كان أزهريًّا، لا علم له بلغة أجنبية، ومع ذلك أثار اهتمامي واحترامي بقوَّة منطقه، وهو يناقش أشخاصًا من المعروفين بثقافتهم الواسعة واطلاعهم العميق على اللغات الأجنبية مثل الدكتور إبراهيم عقل وسالم جبر وزهير كامل، وامتاز بهدوء الأعصاب وأدب الحديث فما احتدَّ مرة أو انفعل ولا حاد عن الموضوعية، ولا بدا في مستوى دون مستوياتهم الرَّفيعة، فكأنَّه ندٌّ لهم بكل معنى الكلمة، فاقتنعت بحدة ذكائه ومقدرته الجدلية، واطلاعه الواسع رغم اعتماده الكلي على التراث والكتب المترجمة، ولم يداخلني شك في أنه أذكى من إبراهيم عقل وسالم جبر وزهير كامل جميعًا، وحتى نقده للكتب العصريَّة لم يتسم بالهزال أو السطحية بالقياس إلى نقد المتخصصين من حملة المؤهلات الباريسية واللندنية، وإن كان ثمَّة فارق دقيق فلم يكن لينكشف إلا لعين العارف المدقق.
قال لي عنه يومًا الدكتور ماهر عبد الكريم: إنَّه شابٌّ موهوبٌ ومن المؤسف أنه لم يُرسَل في بعثة.
وكان الدكتور ماهر عبد الكريم مِمَّن يزنون أقوالهم بميزان دقيق. وبالرَّغم من أنَّ عبد الوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وبالرغم من تظاهره بالعصرية في أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما، إلا أنَّ تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصُّبه لم تخف عليَّ، أذكر أن كاتبًا قبطيًّا شابًّا أهداه كتابًا له يحوي مقالات في النقد والاجتماع فحدثني عنه ذات يوم في مقهى الفيشاوي فقال: إنه ذكيٌّ مطَّلع حسَّاس وذو أصالة في الأسلوب والتفكير.
فسألته ببراءة وكنتُ مُغرمًا بالكاتب: متى تكتب عنه؟
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك!
– ماذا تعني؟
فقال بحزم: لن أشترك في بناء قلم سيعمل غدًا على تجريح تُراثنا الإسلامي بكافة السبل الملتوية.
فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك مُتعصب؟
فقال باستهانة: لا تُهَدِّدني بالأكليشهات فإنها لا تهزني.
– يؤسفني موقفك.
– لا فائدة من مناقشة وفديٍّ في هذا الموضوع، وقد كنتُ وفديًّا ذات يوم، ولكني أصارحك بأنه لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخرى!
وقد كان حقًّا وفديًّا، ثمَّ انشق على الوفد وراء الدكتور أحمد ماهر، وكان عظيم الإعجاب به، ورُقِّي في عهد السعديين إلى وظيفة مُفتش. وكم تخلَّى عنه حلمه بسبب مصرع الدكتور أحمد ماهر، كأنَّما أُصيب بنفس الرصاصة التي أودت بحياة الرجل، وقال لي بحزن بالغ: ضاع أعظم رجل في الوطن.
وكان يشكو صحته كلما سنحت مناسبة، وبها يتعلَّل في إفطار رمضان، ولكنه لم يصرِّح بحقيقة مرضه لأحد، كما أنَّه لم يهتم في حياته بالنساء ولم يتزوج، وعُرف في تلك الناحية بالاستقامة الكاملة. وعلى جدية أخلاقه، وحملاته الصادقة على المنحرفين، تكشَّف لي جانب منه لم أكن لأصدِّقه لو لم أخبره بنفسي، ذلك أنه كان يوجد كاتب صاحب مجلَّة ومطبعة تُصدر سلسلة شهرية من الكتب، وكان عبد الوهاب يحتقره ويقول عنه: لولا مجلته لما وجد مجلة تقبل أن تنشر له كلمة.
وكم أدهشني أن أُطالع له مقالة في الرسالة عن صاحب المجلَّة رفعه فيها إلى السماء! حرت في تفسير ذلك، حتى علمتُ بأنه اتفق معه على نشر كتاب له في سلسلته الشهرية نظير أجر ممتاز لم يظفر بمثله كاتب آخر! وتذكرتُ في الحال موقفه الأعمى من الكاتب القبطي، فأزعجني جدًّا اكتشاف ذلك الجانب الانتهازي في شخصيته، وساورني شك من ناحية صدقه وأمانته، واستقرَّ في نفسي — رغم صداقتنا — نفور دائم منه. وظل يعمل مفتشًا وكاتبًا، حتى ولي الوفد الحكم عام ١٩٥٠، فلم يرتح إلى معاملة الوزير الوفدي له، فقدَّم استقالته وتفرغ للعمل في الصحافة، وعُرف في تلك الفترة بهجومه المتواصل على حكومة الوفد، وفي نفس الوقت شرع يكتب كتبًا عصرية عن الدين الإسلامي، لاقت نجاحًا مُنعدم النظير، وقامت ثورة يوليو ١٩٥٢ وهو منغمسٌ في محاربة الوفد والدفاع عن الدين الإسلامي، وكان مَرَّ عامان على الأقل لم نلتقِ فيهما أبدًا وانقطعت عني أخباره الخاصة. ويومًا كنت في زيارة للأستاذ سالم جبر فقال لي: الظاهر أنَّ نجم عبد الوهاب إسماعيل سيلمع قريبًا.
فسألته باهتمام: ماذا تعني؟
– أصبح من المقربين.
– ككاتب سياسي أم ككاتب ديني؟
– باعتباره من الإخوان المسلمين.
فهتفت بدهشة: الإخوان؟ .. لكنني عرفته سعديًّا مُتطرفًا.
فقال مُتهكمًا: سبحان الذي يُغير ولا يَتغير!
وقابلته بعد ذلك بعام أو نحوه، أمام بار الأنجلو؛ فتصافحنا بحرارة، وسرنا معًا نتحادث حتى جاء ذكر الثورة فقال بتحفُّظ: ثورة مباركة، ولكن من العسير أن تعرف ماذا يريدون.
ولمست في حديثه مرارة لم أقف على سرها ولم يُبِح به. كانت له قدرة على الاحتفاظ بأسراره ليست إلا لقلة نادرة من المصريين، وقلت له: بلغني أنَّك انضممت إلى الإخوان المسلمين؟
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: أي مسلم عرضة لذلك!
– من المؤسف حقًّا أنك نبذت النقد الأدبي.
فضحك قائلًا: يا لها من تمنيات جاهلية!
وافترقنا وأنا أشعر بأننا لن نلتقي مُستقبلًا إلا مُصادفة في الشوارع. وعند أول صدام بين الثورة والإخوان قُبض عليه فيمن قُبض عليهم من أعضاء الجماعة، وقُدِّم للمحاكمة فحُكم عليه بعشرة أعوام سجن. وغادر السجن عام ١٩٥٦ فرأيتُ أن أزوره مُهنئًا، فذهبت إلى مسكنه بشارع خيرت، والحق أنه لم يتغير كثيرًا، شاب شعر رأسه، كما يُتوقع لرجل في السابع أو الثامن والخمسين من عمره، وزاد وزنه حتى خُيل إليَّ أن صحته تحسَّنت عما كانت عليه. وتبادلنا الأسئلة عن الظروف والأحوال، وكان يحافظ على رزانته المعهودة وبرودة أعصابه الفذة، وخاض دون مقدمات في المسائل العامَّة فأدلى بآرائه بكل ثقة.
– يجب أن يحلَّ القرآن مكان كافَّة القوانين المستوردة.
وقال عن المرأة: على المرأة أن تعود إلى البيت، لا بأس من أن تتعلم، ولكن لحساب البيت لا الوظيفة، ولا بأس من أن تضمن لها الدولة معاشًا في حال الطلاق أو فقد العائل.
وقال بقوَّة: الاشتراكيَّة والوطنية والحضارة الأوروبية خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا.
وحمل على العِلم حملة شعواء حتى ذُهلتُ فسألته: حتى العِلم؟!
– نعم، لن نتميز به، نحن مسبوقون فيه، وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالة علمية لنا نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده لا رأس المال ولا المادية الجدليَّة.
استمعتُ إليه طويلًا ضاغطًا على انفعالاتي حتى لا أخل بواجب المجاملة ثم قمتُ للانصراف وأنا أسأله: ماذا عن المستقبل؟
– هل لديك اقتراح؟
– لديَّ اقتراح ولكني أخشى أن يكون جاهليًّا، هو أن تعود إلى النقد الأدبي!
فقال بهدوء: تلقيتُ دعوة للعمل في الخارج.
– وعلامَ عوَّلت؟
– إني أفكر.
وودَّعته وانصرفت، وبعد انقضاء عام على المقابلة طلعت علينا الصحف بأنباء مؤامرة جديدة للإخوان، ولم أعرف وقتها شيئًا عن مصير عبد الوهاب إسماعيل الذي رجحت أنَّه غادر الوطن للعمل في الخارج، غير أن الصديق قدري رزق أكد لي أنه كان ضمن المؤامرة، وأنه قاوم القوة التي ذهبت للقبض عليه حتى أُصيب بطلقة قاتلة فسقط جثة هامدة.