عَبدة سليمَان
لعلها كانت أوَّل فتاة تُعيَّن بوزارتنا، ولكن مؤكد أنَّها كانت أول موظفة بإدارة السكرتارية. عُيِّنت في أيام الحرب العظمى الثانية، في نفس الشهر الذي تولى فيه عبَّاس فوزي رياسة السكرتاريَّة، كانت في الخامس والعشرين من عمرها، بضَّة مُمْتلئة، سمراء، متوسطة الجمال، خفيفة الروح، وكانت تحمل شهادة البكالوريا، ولم ترغب في الوظيفة حتى توفي والدها، وقال عباس فوزي مُحَذِّرًا: كونوا جديرين بالزمالة من فضلكم!
وهمس لي عم صقر وهو يُقدم لي القهوة: صاحبتك من السيدة زينب!
فسألته: وما له؟
– السيَّدة مأهولة بالطلبة ولذلك فكثيرات من بناتها …
ورسم بيده حركة مثيرة للشك، وعمومًا اشتدت العناية بالمظهر في السكرتاريَّة، واسترقت الأعين النظر إلى ركن الحجرة حيثُ جلست عبدة إلى يمين الأستاذ عبد الرحمن شعبان. كان علينا أن ننتظر طويلًا حتى تصير عبدة «عادة» يوميَّة لا تثير الأهواء ولا تلفت النظر. وتواترت أخبار تصوِّر سلوكها الخاص في حي السيدة بالاستهتار. وقال لي عم صقر: لا تُصدق أن فتاة «شريفة» تقبل أن تعمل وسط الرجال.
فقلتُ له: ولكنَّها مؤدبة حقًّا وتصدُّ عنها جميع الطامعين دون استغلال للدعابة.
فقال بإصرار: سياسة حلوة .. حِفظًا على كرامتها كموظَّفة، ولتوقِع بالمغفل ابن الحلال!
ولاحظنا أن زميلًا من الأرشيف أصبح يتردد على صديق له في السكرتارية على غير عادة، وكان زميلًا مشهورًا، رغم حقارة وظيفته وبدائيَّة تعليمه الذي لم يجاوز الابتدائيَّة، ولكنَّه كان جميلًا، له مظهر الذوات واعتدادهم بأنفسهم، وكان من أسرة العادل — يدعى محمد العادل — في الثلاثين من عمره، وكان ابن شقيق الباشا عميد الأسرة، وزوج كريمته الغنية، ورغم فقره وضآلة مُرتبه كان يرتدي أفخر البدل، وينفق عن سعة من مال زوجته، وعُرف أنه يطارد عبدة، وأنه يزور السكرتارية جريًا وراء هدفه. ولم يتعرض له عبَّاس فوزي بأية ملاحظة لعلمه بصداقة عمه الباشا لوكيل الوزارة، فتجاهله على مضض، ولكن الأستاذ عبد الرحمن شعبان المترجم لم يبالِ بذلك فمضى نحوه يومًا ثم قبض على أعلى جاكتته ودفعه أمامه حتى باب الإدارة، وهو يقول له: إذا رجعت مرة أخرى فسأكسر رأسك.
ولكنَّ عم صقر أخبرني أنه يطارد عبدة حتى مشارف السيدة، وأنه يلح بجنون في التعرف بها. ووضح أنَّ الفتاة رفضت تلبية النداء وأصرت على ذلك. رفضت بكل قوَّة أن تكون عشيقة وعاملته بخشونة، وأخذنا نناقش الموضوع همسًا، فقال عباس فوزي: الولد فحل جميل ولا يقاوَم.
فقال عبد الرحمن شعبان: ولكنَّه حقير جاهل.
فقال له عبَّاس فوزي: المرأة هي المرأة والرجل هو الرجل.
فقلت: من الطبيعي أن تبحث عن زوج، فما معنى أن ترضى بدور العشيقة.
– هذا هو المعقول ولكنَّ الحب لا معقول.
ولكن مضت الأيَّام وعبدة سليمان ترفض أن تستسلم. ذات يوم طلبت إجازة أسبوعًا، ولم يهتم أحد بالطلب حتى جاءنا عم صقر، وهو يقول: محمد العادل أخذ إجازة أسبوعًا أيضًا!
وتضاربت التخمينات، ولكنها كانت مجرد تخمينات، ومضى الأسبوع ورجعت عبدة، ولكنَّا رأينا فيها فتاة جديدة، كأنَّما فقدت في صميم روحها شيئًا ثمينًا لا يُعوَّض. انتظرنا أن تقول شيئًا، ولكنها عكفت على عملها في صمت تكتنفها هالة حزن كأنما هي راجعة من قرافة، ومال عبد الرحمن شعبان نحوها وسألها برقة: ما لكِ يا مدموازيل؟
وبمجرد استشعارها العطف انهمرت دموعها! واتجهت إليها الأبصار، ومضى عبَّاس فوزي فوقف أمام مكتبها، وهو يسأل: ما لك؟ نحن زملاء، والإنسان للإنسان!
– لا شيء!
– لا نريد إكراهك على الكلام إذا كرهت ذلك.
فقالت بيأس: لن يخفى شيء!
– حسن فماذا يحزنك؟
تردَّدت قليلًا ثم قالت: أخذت الإجازة لأتزوج.
– لا عيب في ذلك ولا حزن.
– تزوجنا أنا ومحمد العادل.
– محمد العادل!
– نعم.
– سرًّا!
– قال لي إنه يقامر بمستقبله، وإنه إذا عرفت زوجته أو عمه الباشا فسيُقضى عليه إلى الأبد.
فسألها عبَّاس فوزي بنبرة لم تخلُ من عتاب: وكيف رضيتِ أن تتزوجيه وأنتِ على علم بحاله؟
فقال عبد الرحمن شعبان بغضب: تذكر أقوالك عن الحب.
فتراجع الرَّجل قائلًا: حسن، وماذا حدث بعد ذلك؟
– سافرنا إلى الإسكندرية فمكثنا أسبوعًا!
– ثمَّ ماذا؟
وهي تحاول تمالك أعصابها الباكية: طلَّقني أمس!
– طلقك؟!
– نعم.
– لِمَ؟
– قال إنَّه إذا استمرت العلاقة فستُعرف، وإذا عرفت خسر كل شيء!
وهمس عم صقر في أذني: طريقة جديدة للعشق!
ونالت عبدة من العطف بقدر ما نالت من اللوم. وتطوَّع كثيرون لمساعدتها في إجراءات القضية الشرعية. ونما الخبر إلى الزوجة والباشا، واستدعى وكيل الوزراء — بإيعاز من الباشا — عبدة فوبَّخها واتهمها بإغواء الولد الأرعن وطالبها بالتنازل عن القضية في نظير أن يحفظ لها حقها، ولكنها صارحته بأنها حُبلى، وبذلك تعقدت الأمور أكثر، ووضعت طفلة وكانت النفقة تُقتطع لها من مرتب الشاب الصغير، والحقُّ أنَّ محمد العادل لم يكن شبع تمامًا من عبدة، وكانت هي من ناحيتها تُحبه، وهي حقيقة لم تخفَ عن المجربين مثل عباس فوزي وعبد الرحمن شعبان، وعادت العلاقة بينهما، غير شرعية هذه المرة، وفي تكتُّم لم يدرِ به أحد منا، حتى فوجئنا ذات يوم بالوكيل يستدعي عبدة ومحمد، ويهددهما بالنقل إلى الأقاليم إذا لم يقطعا علاقتهما «الآثمة» في الحال. وحدث ذلك بحضور الباشا نفسه، وترامت الأصوات إلى السعاة فالتقط عم صقر الخبر وأذاعه بطريقته السادية، حتى اضطر الأستاذ عبد الرحمن شعبان إلى تذكيره بابنته الضائعة، فغادر الرجل الحجرة متقلِّص الوجه، ونُقل محمد العادل بعد ذلك إلى وزارة الزراعة. وتزوَّجت عبدة من مقاول قَبِلَ أن تتربى ابنتها في بيته تحت شرط أن تُقدِّم عبدة استقالتها، وقد فعلت. كان ذلك على عهد حرب فلسطين الأولى عام ١٩٤٨، ومَرَّ على ذلك عشرون عامًا حتى لقيت عبدة مصادفة في ميدان التحرير.
تصافحنا بحرارة، وكانت في الخمسين وبدينة جدًّا، وسرنا معًا وهي تسأل عن الزملاء القدامى فحكيت لها ما كان من أمر عباس فوزي، ونهاية عبد الرحمن شعبان وقد تأسَّفت عليه بصدق، وحتى عم صقر أخبرتها بسوء مآله، أما هي فأخبرتني بأن زوجها توفي من عامين، وأنَّها أنجبت منه ثلاثة ذكور في كليات الطب والزراعة والاقتصاد، وأنَّ ابنتها تزوجت من ضابط، ثم تساءلت: أتدري ما حصل لأبيها؟
ولكني كنتُ نسيته تمامًا فقالت: بعد تطبيق قانون الإصلاح الزِّراعي بعام واحد مات الباشا، ولم يبقَ لابنته إلَّا ما تستطيع أن تُربي به أولادها، فامتنعت عن إعطاء زوجها أيَّ نقود، فلم يستطيع ممارسة الحياة على المستوى الذي اعتاده، فاختلس وفُصل من عمله، وهو يعيش الآن كالمتشردين، واضطر إلى العمل في الإسكندرية منادي سيارات!
ثم سألتني ونحن نتوادع: خبرني ماذا عن الموقف، حرب أم صلح؟
فبسطت راحتي في عجز عن الجواب وافترقنا.