عَدْلي بَركَات
له في الذهن صورة قديمة، كالعبَّاسية القديمة بحقولها وسكونها الأبدي، عندما كان يتهادى به الحنطور من العباسية الشرقيَّة إلى المدرسة، فيُغادره وهو يسير — رغم حداثة سنِّه — في عظمة خيالية تُناسب ولاة العرش، ويمر بنا دون أن يلقي نظرة على أحد، وحيدًا بلا صاحب إلَّا فيما ندر، ونتابعه بسخرية تخفي تحتها إعجابًا وحسدًا. وكان آل بركات — كآل الكاتب — من أرستقراطية العباسية الشرقية المقيمين في القلاع. وكانت أم عدلي تُركيَّة، وكان الأب فلَّاحًا مصريًّا غنيًّا، فأنجبا غلامين عدلي وأخًّا أكبر، وماتت الأم وعدلي في الثانية عشرة، فتزَوَّج الأب بعد عام من وفاتها بسيدة مصرية، وقيل لي إنَّ وفاة أمه رسبَّت الحزن في أعماق روحه، كما إنَّ حلول أخرى محلها قضى على توازنه مدى العمر. تلك أحزان يُمكن تخيلها فحسب أمَّا تحليلها فلا سبيل إليه، وبخاصة وأنَّ عدلي لم يكن يذكر سيرة أمِّه أمام أحد، ولا يسمح لأحد بالتسلل إلى ذلك التاريخ القديم، وبالرغم من أنني عرفته في تدهوره، وهو لا يعترف لشيء باحترام أو يعفيه من سخريته، فإنه كان من المُسلَّم به بيننا أنَّ أمه سرٌّ مغلق مقدس لا يجوز مسه أو الحومان حوله أو مجرد التفكير في الاقتراب منه. وكنَّا في صبانا نراه كثيرًا، في المدرسة، وفي حديقة القصر، ولكن لم تنشأ بيننا وبينه أي معرفة أو حتى ميل إلى ذلك. ومرة وكنا عائدين من ملعب الكرة في الصحراء وجدناه واقفًا أمام قصره فقرر خليل زكي أن يتحرش به فوقف أمامه وسأله بوقاحة: هل تعرف أين تقع دكان عم فلقوس بياع المدمس؟
فتراجع إلى داخل القصر دون أن ينبس، ومضينا ونحن نكتم الضحك، ونلعن خليل، ولكن اجتاحنا سرور لا شك فيه. وطالما كان خليل يقول: يا ما نفسي أطبق في زمارة رقبته!
ودخلنا الجامعة في عام واحد فزامل رضا حمادة في كلية الحقوق، وعارف رضا بيني وبينه، ونحن نشاهد مباراة كرة حامية بين النادي الأهلي والمختلط. قلت له: نحن أبناء حي واحد منذ قديم، ومع ذلك لم نتعارف إلا اليوم.
فابتسم قائلًا في اقتضاب: نعم.
وتمعَّنته عن قرب فإذا به رغم الأناقة والعظمة المطبوعة يُشبه أباه الفلاح لحد التماثل، ولم يرث عن الأم التركية شيئًا ظاهرًا ينتفع به! وأدركت من أوَّل وهلة أنه متعب، وأنه يحتاج إلى سياسة خاصة في معاملته كي يمنح ثقته وصداقته، وأنه يحتقر كل شيء في الوجود، وأنَّ كلمة «مضحك» إكليشيه لاصق بلسانه يصف به أي شخص أو أي فعل مهما يكن رأي المتحدث فيه، فأستاذ المدني «دكتور مضحك»، ومصطفى النحاس «زعيم مضحك»، وقرار الوفد بإعلان المقاطعة «إعلان مضحك»، وقواعد الإسلام «قواعد مضحكة» حتى سألته مرة: مَن يستحق احترامك من الناس؟
فأجاب وهو يضحك: الجميل الشرير!
ثمَّ وهو يواصل الضحك: يُقال إنَّ إسماعيل صدقي كان كذلك في شبابه.
فقلتُ: ولكنَّك تحترم والدك بلا شك؟
فبصق على الأرض بتلقائية ووحشية وقال: اللعنة عليه وعلى جميع الحشرات!
وعرفتُ ما لم أكن أعرف من مقته لأبيه. وحدثني موسيقار من جيرانه عن تلك العلاقة الغريبة، فقال إنه — عدلي — لم يعد يخفي كراهيته لأبيه منذ زمن بعيد، وإن الباشا يداريه مُسلِّمًا أمره لله. وسألتُ عن السبب فقال: لا يدري أحد شيئًا على سبيل اليقين، وعدلي نفسه لا يحب أن يفشي ذلك الجانب من أسراره، ولكن المظنون أنَّ مرجع هذه الكراهية إلى زواج أبيه من امرأة أخرى بعد وفاة أمه.
ولمَّا توثقت العلاقة بيننا سألته عما يدعوه إلى مقت أبيه واحتقاره فحدجني بنظرة قاسية وقال: ألا يكفي لذلك أن يورثني سحنته؟!
فقلت: أنت فلاح جميل!
فعبَّس قائلًا: لو نافقتني مرَّة ثانية فسأمقتك أكثر منه.
ولكي يبتعد عن مجال أبيه ويتجنب رؤيته ما أمكن أقام في مبنى مستقل بحديقة القصر كان يُستعمل كمضيفة، وربما مرَّ الشهر والشهران فلا تقع عينا أحدهما على الآخر. وفي آخر عهده بكليَّة الحقوق انتقى من الزملاء صحبة قليلة عُرفت باستهتارها الأخلاقي، وجعل منها خاصة أصدقائه، وبهم خرج من عزلته فعرف مواطن اللهو ومقهى الفيشاوي، وانقلب مقامه المستقل في الحديقة إلى حانة وغرزة! ولا شكَّ أنَّ الباشا فطن إلى دبيب الحركة الجديدة المريبة، ولكنَّه لم يستطع أن يتعرض لها إيثارًا للسلامة، وقال لي يومًا: عليك بصحبة الأشرار فبفضلهم تعرف نفسك.
ولم أعرف ما يعنيه تمامًا إلا فيما بعد نسبيًّا، عندما تبين لي أنَّه بقدر ما يحب مصاحبة الحِسان فإنه لا يستجيب لهن، وأنَّه لا يستجيب إلا للمومسات ذوات السحن الوحشية، وأتمَّ دراسته عام ١٩٣٨ بعد سقوط أربع مرَّات، وسعى الباشا إلى تعيينه في النيابة العمومية بنفوذه، ولكن لم يكن يُقبل أحد في وظائف النيابة إلا بعد تحريات، وقد كشفت التحريات عن الغرزة المستقرة في مسكنه المستقل فرُفض الطلب وأُبلغ والده بالحقيقة! وفاتحه أبوه بالأمر فقال باستهانة: النيابة العمومية وظيفة مضحكة!
فغضب الرجل وغضب الابن وسعى الابن الآخر بينهما حتى هدأت النفوس، واتفق على أن يفتح الباشا له مكتب محاماة في مقامه المستقل على أن يجعل سهراته الخاصة في الخارج. وأُعدَّ في إحدى الحجرتين اللتين يتكون منهما المبنى مكتب، ومكتبة قانونيَّة، وأُلصقت على مدخل السراي لافتة باسم المحامي الجديد. ولم يُنفذ الاتفاق إلا أيَّامًا معدودات ثم رجعت ريمة لعادتها القديمة، فعاد الأصدقاء ودارت الجوزة، وكان الحشيش قد أسره تمامًا. ولم يقنع الأصدقاء بذلك فكانوا يجيئون ببعض المومسات باعتبارهن عميلات للمحامي الجديد، فتطوَّرت الغرزة إلى ماخور، وسكرت إحداهنَّ ذات ليلة حتى فقدت وعيها فتجردت من ثيابها وراحت ترقص في الحديقة تحت ضوء القمر.
ولأوَّل مرة يسمح الباشا لغضبه بالانفجار، انهال على الابن سبًّا ولعنًا، فردَّ له الابن السبَّة سبَّتين واللعنة لعنتينِ، وصفعه الأب فهدَّده الابن بالصفع والركل، وعند ذلك طرده من قصره وحذره من أن يريه وجهه مرة أخرى. وغادر عدلي القصر مطرودًا في أوائل أيام الحرب العظمى الثانية، وليس معه إلا ملابسه. وراح يبيت بالتناوب في بيوت أصدقائه ويُفكرون في المستقبل. اقترح عليه بعضهم أن يبحث عن أي وظيفة كتابية حتى يجيء الفرج، ولكنَّه قال بكبرياء: إني أفضل الصعلكة.
وعرض عليه رضا حمادة أن يبدأ من جديد في مكتبه، ولكنه قال له: نسيت القانون ولا همة لي الآن على استرجاعه.
فقال الرجل ببراءة: قم بأي عمل في المكتب!
فأدرك أنَّه يعرض عليه أن يعمل كاتبًا بمكتبه فصاح غاضبًا: إني أحتقرك وأحتقر من خلقك!
واختار الصعلكة فكان يقترض مبالغ متفاوتة بضمان موت أبيه الذي جاوز السبعين من عمره، وكان يتبلغ بالسندوتش ويُسكت صراخ بطنه بالفول السوداني، وينتقل في الليل من غرزة إلى غرزة فيدخن بالمجَّان، ثم يقضي الليل في بيت صديق أو في مقصورة من مقاصير مقهى الفيشاوي. وساء مظهره، ووهنت صحته، ورثَّت ثيابه، وصار أشبه بالمتشردين، ولكن كبرياءه كان يتعقَّد ويتضخم، حتى انقلب وقاحة وسفاهة. وكنَّا مُجتمعين مرة بالفيشاوي؛ فإذا به يضحك عاليًا ويستغرق في الضحك، فسألته عما يضحكه، فقال: تصوَّر أن أموت أنا قبل «الكلب»؟
فقلت باسمًا: هذا محتمل ومتوقع أيضًا!
فلعنني، وقال: إني على استعداد لأن أعبد الله إذا أخذ روحه.
ثم مستدركًا: على أي حال ليس لديَّ ما أشكوه ما دمت أجد الجوزة في آخر النَّهار!
وكان أيضًا قابعًا في الفيشاوي — ١٩٤٧ أو ١٩٤٨ — عندما جاءه رسول من شقيقه ينعي إليه والده ويدعوه إلى القصر. كان مسطولًا فلم يفهم من المرة الأولى، ولمَّا أخذت الحقيقة تُلاطمه وتوقظه وقف مُترنحًا، فحملق في الجدار المُطعَّم بالأرابيسك، وسرح في غيابات لا يَدْريها أحد، ثم غادر المكان دون أن يلقي تحية وراءه. واستقبله أخوه — رئيس محكمة كان — وقال له: البقية في حياتك.
ومضى به إلى الداخل وهو يقول: ما كان كان، وهذه ساعة مقدسة تُنسى فيها الأحقاد.
حتى أوصله إلى مخدع الباشا فأوسع له وهو يقول: ادخل فودِّع أباك ليغفر الله له ولك ولنا جميعًا.
وتسلل عدلي إلى الحجرة — كما حكى لنا فيما بعد — ووقف وحده عند رأس الجثمان المسجى، ثم أزاح الغطاء عنه قليلًا حتى انكشف وجهه المطوق، ونظر إليه مليًّا، ثم غمغم: إلى الجحيم يا قذر!
وأكثر من صوت قال: مستحيل … مستحيل.
فنظر إليهم باحتقار لضعفهم وتمتم: كم وددت أن أُمثِّل بجثته!
بعضنا لم يصدِّق كلمة مما حكى، والبعض آمن بكل حرف وخمَّن أنه ربما فعل أكثر مما قال، على أي حال ابتسمت له الدنيا بعد عبوس، وقد ترك الباشا أملاكًا منها أرض وعقار وأموال سائلة، وكان نصيب عدلي عمارتين يدرَّان دخلًا صافيًا قدره ألف جنيه في الشهر، بالإضافة إلى أربعين ألفًا من الجنيهات، وقال كثيرون من أصدقائه: لقد كانت أعوام التشرد درسًا أريدَ به أن يعرف قيمة القرش فيحسن معاملته!
والتفَّ حوله أصدقاؤه عقب انفضاض المأتم واستبقوا إلى تخطيط صورة للمستقبل السعيد: من حسن الحظ أنَّ مطالبك في الحياة معقولة وأنه بوسعك أن تعيش ملكًا حتى آخر يوم في حياتك.
– وفِّر لنفسك مسكنًا جميلًا، واعرض نفسك على طبيب كبير، واحمد ربك أنك لم تغوَ القمار، الطعام أمره هين، ومزاجك في النسوان متواضع، ولم نسمع عن أن الحشيش خرب بيت أحد، فمبارك عليك رزقك الحلال!
وصاح بهم: كُفوا عن النَّصائح عليكم اللعنة!
كان يمقت النصح ويعدُّه تعاليًا مرذولًا، ولكنَّه بدا ثملًا بالفرح والسعادة، وبات ليلتها في فندق سميراميس، وأقام به حتى يُدبر أموره، ونشط نشاطًا غير معهود فاستأجر شقة على النيل بخمسين جنيهًا شهريًّا. ومضى يؤثثها بأفخر الأثاث، وقد ذُهلنا — نحن البسطاء — عندما علمنا بأن تأثيثها تكلف عشرين ألفًا من الجنيهات، وأعجب ما أذهلنا فيها كان حجرة شرقية، أقام بها بارًا أمريكيًّا وغرزة مُوهت أدواتها بالذهب والفضة، كما ابتاع سيارة كاديلاك، وكان مجموع ما أنفقه على ذلك — بالإضافة إلى الملابس — ثلاثين ألفًا. كان مبلغًا خياليًّا، ولكن اعتذر عن ضخامته أصدقاؤه بما عاناه من حرمان طويل، وقالوا أيضًا إن التأسيس عادةً يتكلف أضعاف أضعاف ما تتكلفه الحياة اليومية، ولكن الحجرة الشرقية شهدت سهرات ليلية جمعت الأصدقاء والطفيليين، وغانيات الملاهي الليلية، وبعض الفنانين والفنانات، وجرت الخمر وانتشر الدخان الأزرق، وجيء بموائد الطعام من نادي السيارات، وراح يخطر بين الضيوف رافلًا في الحرير مُحاطًا بالإجلال والإكبار. وما لبث أن تطايرت العشر الآلاف جنيه فلم يبقَ إلا دخل العمارتين، وقال المتفائلون أنْ آن أوان الانضباط وستسير الحياة سيرتها المتزنة المعقولة، ولكنه كان اعتاد عادة الإسراف وتقمَّص روح ليالي ألف ليلة وليلة، وعلى حين كان ينفق بسخاء على غانيات الملاهي، كان يمارس العشق الحقيقي مع بنات الهوى المتواضعات، ومع بيَّاعة فول سوداني فلاحة من المترددات على مقهى الفيشاوي، ولذلك لم يوفق إلى التوازن أبدًا، واضطر إلى بيع إحدى العمارتين رغم توسلات الأصدقاء، ثم ألحق بها الأخرى، وتجلى في أثناء ذلك سعيدًا مجنونًا فوق الحذر والماضي والمستقبل، وما جاء عام ١٩٥٠ حتى كان قد باع شقته ورجع للإقامة في فندق سميراميس، ثم باع السيارة، وبدا المستقبل واضح المعالم. وأذكر أنني تدارست حاله مع الصديق رضا حمادة فقلت له: أهو مجنون؟
فأجاب: لا يخلو من جنون.
– إنه لا يشعر بالغد.
– أو إنه مستغرق في لحظته الرَّاهنة.
– أكاد — وسط همومنا التي تثقلنا — أحسده!
فضحك عاليًا، وقال: على الحياة أن تكون جدًّا أو فلتذهب إلى الشيطان!
وعندما نفد حسابه غادر سميراميس، واجه الحياة مرة أخرى، وهو لا يملك مليمًا، ولا أمل له من وراء وفاة أحد. ولم يكن بلا خطة، شرب زجاجتي ويسكي وبلع ربع أوقية حشيش، وهام على وجهه، وعُثر عليه صباح اليوم التالي جثة هامدة على شاطئ النيل.