عَزْمي شَاكِر
تعرَّفت به في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم عام ١٩٦٠، وقد قلت له من فوري: أذكر أنِّي رأيتُك في زيارة للأستاذ عباس فوزي في أثناء الحرب العظمى الثانية.
فقال: لم أُقابله من مدة طويلة، وبالمناسبة كيف تفسر تحوله إلى تأليف الكتب الدينية، أكان عن عقيدة حقًّا؟
فأجبت بحذر: أنت تعلم أنه كان دائمًا من المهتمين بالتراث!
وكان عزمي شاكر يوم تعرَّفت به في الأربعين، وقد جذبني بذكائه وثقافته وصراحته، وأشعرني تمامًا بأنه من الناس الذين يأخذون الأمور مأخذ الجد، ويلتمسون السبل إلى الأمل، وكان دكتور في التاريخ من فرنسا، ومُتزوجًا من مدرسة دكتورة في العلوم. وكان الأستاذ سالم جبر يعرفه، وقال لي عنه: إنه كان تلميذًا وفديًّا ولكنه اهتم من بادئ الأمر بالمشكلات الاجتماعية، ويعترف بأنَّ قلمي كان له الأثر الأول في توجيهه.
ولمَّا حادثت عزمي شاكر في ذلك قال لي: لم تكن وفديتي قويَّة كالحال في جيلكم، وتخَلَّصْتُ منها تمامًا قبيل الثورة، ولكني بقيت على صلة حميمة بالجناح الوفدي اليساري، وعُددت منذ ذلك الوقت من الشيوعيين، وعُرفت بذلك في أوساطهم.
وقال لي أيضًا: ولمَّا قامت ثورة يوليو استقبلتها بترحاب وحذر معًا، أُعجبت بإلغائها للنظام الملكي، وبتحقيقها للجلاء، ولم أعجب كثيرًا بإصلاحها الزراعي، وسرعان ما اعتبرتها انقلابًا قُصد به الإصلاح وتفادي الثورة الحقيقية.
وبسبب موقفه فُصل من هيئة التدريس الجامعية، ثم اعتُقل أعوامًا، ثم أُفرج عنه فعمل في الصحافة، وعكف على الكتابة في الموضوعات التي تتيح له التعبير بإخلاص عن آرائه؛ فآثر الكتابة في الشئون الخارجية أو التاريخية أحيانًا، وعقب صدور قوانين يوليو ١٩٦١ الاشتراكية تغير موقفه تغيرًا ذاتيًّا وجذريًّا، وعن إخلاص حقيقي، كان قد انضمَّ إلى أصدقائنا، وكان يجتمع بنا في مكتب سالم جبر وصالون ماهر عبد الكريم، وذات يوم قال لي: الثورة هي أنسب حركة تاريخيَّة لوطننا في ظرفه الراهن.
فقلتُ له: إذن غيرت رأيك؟
– أجل، علينا أن نَضَع عقائدنا بين قوسين، وأن نؤيدها بكل قوانا!
وآمنت بصدقه، ولم أجد ما يدعو إلى التشكيك فيه، ثم إنني من المؤمنين بإخلاصه. ومن يومها وهو دائب على تأييد الثورة بقلبه وقلمه، في سرِّه وعلانيته، ولم يُفهم موقفه على حقيقته في أوساط زملائه.
وأذكر أنَّ عجلان ثابت قال لي عنه: إنه وغد لا أكثر ولا أقل، ومهما خطر في لباس قديس!
فقلت له: إنِّي أعتقد بإخلاصه، لا يداخلني شك في ذلك.
فقال ساخرًا: إنَّ أقواله تبرر ترددك، هذا كل ما هنالك!
وسنحت فرصة لرجوعه إلى الجامعة، ولكنه آثر الجهاد في ميدان الصحافة. ومن المهم أن أُسجل أنه لم يكن مؤيدًا أعمى أو متعاميًا، فلم تكن تخفى عنه الأخطاء التي تُرتكب، وكثيرًا ما كان يردد: مما يؤسف له أنَّ الثورة لم تعتمد على الثوريين الحقيقيين، فخلقت منهم أعداءً حينًا، أو وضعتهم تحت المراقبة حينًا آخر.
وقال مرَّة بحزن شديد: إنَّ الفساد ينتشر كالوباء، لا نملك إلا التحذير، وحتى ذلك لا يتيسر لنا إلا فيما ندر.
وثبت لي أنَّه من الشيوعيين المتجددين، الذين يتطلَّعون دائمًا إلى الحرية، الذين يعتقدون أنَّ الحرية تعاني مأساة مريرة، ولكنَّه لم يهوِّن أبدًا من شأن النقلة التاريخية التي وثبها الوطن، وكان يتعلَّق بالمستقبل المضيء كلما ألحَّت عليه عثرات الحاضر، ولمَّا عرَّفته بالدكتور صادق عبد الحميد لمس سريعًا ما يُقَرِّب بينهما من وجهات النظر فتوثقت العلاقة بينهما، ولما قُبض على الشيوعيين حزِن حزنًا عميقًا، وساوره قلق أشبه بتأنيب الضمير، ولكنه قال: إنه التعصب، والإيمان بالكتب أكثر من الواقع!
وكم اغتبط لدى الإفراج عنهم، واغتبط أكثر عندما عِلم بأنهم تبرأوا من الحزب الشيوعي، وعقدوا العزم على التعاون مع الثورة، وقال: ها هم يرجعون إلى موقفي الذي اتُّهمت به عندهم!
فقال الدكتور صادق عبد الحميد: وفي ظروف مختلفة تمامًا!
وتولوا مناصب رئيسية في الدولة والصحافة تاركين إياه — نسبيًّا — في القاع، فلم تخلُ نفسه من امتعاض، وأفلت منه ذلك القول مرة: أخشى أن يكتشف الكُتَّاب يومًا أنَّ اللامعقول أسلوب مناسب لمعالجة العقائد أيضًا!
ولم يعد يجد في الصحافة الرَّاحة النفسية التي نعم بها طويلًا، فطلب العودة إلى التدريس بالجامعة، وسرعان ما حُققت له رغبته، ولمَّا وقعت الواقعة — هزيمة يونيو ١٩٦٧ — تزلزل كيانه كالجميع، وشدته إليها موجة النقد العاتية فغطس فيها وقبَّ، ولكنَّه لم يكتب كلمة في الموضوع بالرَّغم من أنه كان يكتب نظرات أسبوعية في مجلة سياسية. وأشهد بأنَّه كان من أوائل من ثابوا إلى التوازن بل لعله كان أولهم، ففي أكتوبر من السنة نفسها نشر مقاله المشهور الذي حلل به الهزيمة، فاعتبرها درسًا، وحذَّر من الاستسلام لطغيان النقد واحتقار الذات وتعذيبها وفقدان الثقة بالنفس، وأكد في النهاية حقيقة ما زال يؤمن بها وهي أن الثورة هي الأرض الحقيقية المتنازَع عليها، لا سيناء ولا القدس، وأنَّها هي التي يجب أن تبقى وأن تستمر. وفي الأعوام التي تلت ذلك عكف على تأليف كتابه الرائع «من الهزيمة نبدأ»، وهو دستور لحياة جديدة تشق طريقها نافضة عن نفسها ركام الأتربة، وقد شهدته وهو يعمل في وحدته بالاتحاد الاشتراكي بهمة مذهلة، كما استمعت إليه في التلفزيون مرارًا، وهو من القلة التي لم تُصَب بانقسام الشخصيَّة، فهو هو سواء تكلم على الملأ أم في مجالسه الشخصية. وإشادتي به كانت بلا شك من أسباب إغضاب كثيرين ممن هزمتهم الأحداث مثل عجلان ثابت وسالم جبر. ولا أنسى كيف غضب الأستاذ سالم وأنا أُنوِّه مرة بكتاب «من الهزيمة نبدأ» فقال ببرود: طالما احترمته، ولكنه لم يعد إلا المعادل الموضوعي المدني!
أمَّا ثابت عجلان فسمى الكتاب «من الانتهازية نبدأ»، وجعل يضحك ويقول: حسبنا أن يكون لنا من الكُتَّاب جاد أبو العلا وعزمي شاكر، يا بلد الاحتفال بالإسراء والمعراج في عصر الهبوط على سطح القمر!
ولكنَّ الدكتور عزمي ما زال ثابتًا في إيمانه وصدقه ونشاطه.