عشماوي جلال
يقع بيته في شارعنا عند طرفه الشرقيِّ المُتَّصل بشارع العباسيَّة، وهو بيت رمادي اللون، مكوَّن من طابقين، وحديقة شبه مُهملة لم يبقَ من زرعها إلا ياسمينة، ونخلتان، وشجرة مانجو شامخة، وكلَّما مررت به ألقيت عليه نظرة مشحونة بحب الاستطلاع والنفور كحال سكان شارعنا جميعًا. وأنا جديد طارئ على الحي، وفي فترة التَّعارف والاستكشاف، أشار صديق — لعلَّه رضا حمادة — إلى البيت وسأل: أتعرف بيت من هذا؟
فأجبتُ بالنَّفي طبعًا فقال: بيت عشماوي بك جلال!
وسرحتُ لحظة كالمذهول ثم هتفت: عشماوي بك جلال؟!
– بنفسه ودون غيره!
– قاتل الطلبة؟
– قاتل الطلبة!
– وهل ترونه؟
– لا يعلم أحد بمكانه، لا هو ولا أهله، يخافون جمعية الكف السوداء، ولكن هذا هو بيته.
– أكانوا يُقيمون هنا؟
– نعم.
– ومتى هجروا البيت؟
– مذ اشتهر الشيطان بقتل المتظاهرين.
اقترن اسم عشماوي جلال بالرُّعب في وجداني منذ طفولتي، كان ضابطًا كبيرًا بلواء الفرسان بالجيش المصري، واستحقَّ بجدارة أن يُوصف بأنه العدو الأول لثورة ١٩١٩ في الجيش المصري، وجرت أخباره كحكايات الرعب بأنَّه يقتل بلا رحمة، ويُعذب ضحاياه فيربط الطلبة بجواده وينطلق به، وضحيته يسحل خلفه مرتطمًا بالحصى والأسفلت حتى تفيض روحه، ولما تولَّى سعد زغلول الوزارة عام ١٩٢٤ أحاله إلى المعاش، فتسلل عائدًا إلى بيته المهجور بشارعنا، وقبع فيه لا يبرحه كأنه سجن. وددت كثيرًا أن أراه ولو مرة، أجلت البصر في النوافذ والشرفات والحديقة، لمحت زوجته وابنتيه ولكني لم أره أبدًا، وكان اختفاؤه مثار الأحاديث، فهو لا يُغادر البيت ولا يظهر في نافذة ولا يتمشى في الحديقة، وتُعرض المناسبات في الشارع فلا يزور ولا يجامل، فكيف يمضي وقته، وكيف يطيق سجنه، قال جعفر خليل: إنه ينفرد بنفسه لأنه لا صديق له.
وقال رضا حمادة: إنه يخاف انتقام الشعب.
وقال سرور عبد الباقي: يُقال إنَّه فقد البصر وعجز عن الحركة وإنه يتكتم ذلك حتى لا يشمت الناس به.
وكان له ابن وابنتان، فأرسل ابنه إلى إنجلترا ليُباشر دراسته الثانوية خوفًا عليه من انتقام الطلبة في القاهرة، وسمعنا فيما بعد أنَّه التحق بكلية الطب في لندن، ثم عمل هناك طبيبًا وتزوج، وتجنَّس بالجنسية الإنجليزية. وأمَّا البنتان فكانتا تلعبان في حديقة البيت، وكانتا وسيمتين جذَّابتين فعجبتُ كيف ينجب الوحش مثلهما، ولمَّا حُجبتا — عن الشباب — كان عزفهما على البيان يترامى إلينا في الشارع، فعجبتُ مرة أخرى كيف يعاشر الوحش الموسيقى والألحان، وحوالي عام ١٩٣٥ تزوجتا من عريسين مجهولين، ولم يعد في البيت إلا الرجل وزوجته، ثم شاع في الحيِّ أنَّه هجر بيته تاركًا زوجته وحدها، وقيل — وأكدت زوجته ذلك — إنه أقام في الأسرة في الحجرة المُعدة لاستقبال زوار المقبرة في المواسم، وإنه أوصى بأن يُدفن بعد موته دون جنازة أو احتفال، وكانت زوجته جميلة وطيبة، وقد خرجت من عُزلتها عقب هجرته إلى المدفن، فزارت الجيران، واكتسبت ودهنَّ بيسر، وأصبح لها مكانة مرموقة في الحيِّ، وكل ما عُرف عن الرجل الوحش عدا ذلك فمرجعه إلى رجال الجيل السابق من قدامى سكان الحي، قالوا عنه إنه كان غلامًا مُنطويًا على نفسه، ولكنه كان مُهذبًا، ورغم اجتهاده فشل في دراسته حتى اضطرَّ أبوه — وكان ناظر وقف صغير — إلى إلحاقه بالمدرسة الحربية وهو ساقط ابتدائية، مُتشفعًا بصداقته لهربرت باشا ناظر المدرسة في ذلك الوقت، ولدى تخرجه عمل في السودان، فأثبت في الخدمة كفاءة حازت تقدير الإنجليز، وخدمت سياستهم الموضوعة بحذق في جباية الضرائب بقسوة لتنفير المواطن السوداني من الضابط المصري، ومن ثم نشأت بينه وبين الضبَّاط الإنجليز صداقة حميمة. وكان عشماوي جلال يُعجب بالإنجليز إعجابًا فاق الحدود، ويُحبهم حبًّا عظيمًا، ويتيه بصداقتهم ويعتدها عزَّته الأولى في الحياة، وكان يمضي إجازته السنويَّة في إنجلترا سائحًا ومُستطلعًا حتى آمن بأنَّ الإنجليز هم سادة البشر، وأنهم المبعوثون من العناية الإلهية لتمدين البشر وخاصَّةً المتأخرين منهم كالمصريين. وأخبرني رضا حمادة أنه بسبب آرائه تلك احتدمت المناقشة بينه وبين والده الدكتور يومًا حتى تبادلا كلمات قاسية قطعت ما كان بينهما من علائق المودة والجيرة.
ولمَّا قامت ثورة ١٩١٩ دُعِيَ الجيش المصري لمساعدة جيش الاحتلال في قمع الثورة والقضاء على الثوار، ولكنه لم يَحُز الثقة أبدًا، وافتضح تعاطفه مع الثورة، وولاؤه لزعيمها، بل وتصديه جهارًا للدفاع عنه عندما تآمر أعداؤه على الغدر به، ولكن شذَّ عن ذلك عشماوي جلال باندفاعه الجنوني في الهجوم على الثوار والغدر بهم وتعذيب زعمائهم من الطلبة، حتى فاق الإنجليز أنفسهم في عنفهم وقسوتهم، وحتَّى احتل في قلوبهم منزلة لم يحتلها مصري من قبل، وأبغضه مواطنوه حتى الموت، ولم يعطف عليه السلطان لعلمه بأنَّ إخلاصه كان وقفًا على سادته الإنجليز لا عليه، وبُذلت محاولات لقتله لم تُكلل بالنجاح، وإن إصابته شظية قنبلة وطنية إصابة سطحية في ساقه. ولم يكترث الرجل لموقف الشعب منه، وتمادى في ضلاله كأنَّما كان يؤدي فريضة دينية، وقالت زوجتُه ضمن أحاديثها عنه مع جاراتها إنَّ والدها طالبه يومًا بالاعتدال وإنه قال له: قُم بواجبك بلا تورُّط في الأعمال المتطرفة.
فقال له: إني لا أقوم بواجبي كضابط فحسب، ولكني أُدافع عن مبدأ، فإني أعتقد أن استقلال مصر عن إنجلترا سيؤدي بها إلى الانحلال والفساد، وأننا إذا خرجنا من الإمبراطورية خرجنا من الحضارة!
وتُوفيت زوجته بالسكتة قبيل الحرب العُظمى الثانية فدُفنت على بُعد أذرع من مقام الرجل الوحيد في حجرة استقبال المدفن. ولحق بها في العام الأول من الحرب بعد أن تمكَّن منه تليُّف الكبد، ومن العجيب أن اسمه لم يُمحَ من ذاكرة جيلنا حتى اليوم، وأنَّ الكثيرين ما زالوا يحفظون الأغنية الشعبية التي وُضعت بقصد التشهير به.