أنوَر الحلوَاني
اسمه قادر على استدعاء عالم متكامل بأسره. ميدان بيت القاضي المتربِّع بين الجماليَّة وخان جعفر والنَّحَّاسين، وأشجار البلح المُثقلة بأعشاش العصافير، وقسم الجماليَّة العتيق، وحوض الماء القائم في الوسط تُسقى منه البغال والحَمير، وكشك حنفيَّة المياه العمومية، وهو ملعب طفولتي وصباي، وكنت أتطلَّع باهتمام إلى أنور الحلواني في ذهابه من بيته الملاصق لبيتنا أو في إيابه إليه. لم يكن شابًّا عاديًّا، كان من روَّاد المُتعلمين الأوائل في الحي، كان طالبًا بمدرسة الحقوق، ورُبَّما كنتُ مُعجبًا بطربوشه المفرط في الطول، وشاربه الغزير المبروم، وبذلته الأنيقة، وكان يسير في رزانة لا تُناسب سنُّه فكان يحلو لي أن أقلِّده ما تيسر لي ذلك، وكنتُ أتذكَّر جيدًا الشَّرْبات الذي شربته احتفالًا بنجاحه في البكالوريا، قدَّمته لي أمه بيدها، وهي امرأة من أصل ريفي كان يحلو لي أيضًا أن أُقلِّد لهجتها، والظاهر أن أحداثًا كانت تجري في خفاء من حولي، وأنا ألعب تحت أشجار البلح.
استيقظت ذات صباح على صوات يترامى من بيت جيراننا. وحدث اضطراب شامل في بيتنا فجعلتُ أتمسَّح من المضطربين والمضطربات مُستطلعًا، وعرفت في ذلك الصباح أنَّ جارنا الشاب أنور الحلواني قد قُتل برصاصة في مظاهرة، بيد جندي إنجليزي، عرفتُ لأول مرة فعل «القتل» في تجربة حية لا في حكاية من الحكايات الشعبية، وسمعت لأوَّل مرة عن «الرصاصة» في أوَّل اتصال سمعي بإحدى منجزات الحضارة، وثمة لفظة جديدة أيضًا «مظاهرة» استدعت الكثير من الشرح والتفسير، ورُبَّما لأول مرة سمعتُ عن ممثل جنس بشري جديد في حياتي الصغيرة هو «الإنجليزي». وتطايرت الأحاديث في البيت وفي الميدان مُكررة لتلك الكلمات ومُضيفة إليها غيرها مثل الثورة والشعب وسعد زغلول. انهمرت عليَّ الكلمات حتى أغرقتني وانطلقت منِّي الأسئلة بلا حساب وبإلحاح شديد، قتل .. ما معنى قتل؟ وأين ذهب أنور؟ وماذا ينتظره في العالم الذي ذهب إليه؟ ومَن الإنجليزيِّ؟ ولِمَ قتله؟ وما معنى الثورة؟ وما معنى سعد زغلول؟ وما وما وما؟ وما لبثت الأحداث أن تدافعت إلى الميدان نفسه في جنون خيالي.
قبعت وراء شيش النَّافذة أنظر بعينين مُحملقتين إلى جموع البشر المُتَدَفقة من ذوي البدل والجبب والقفاطين والجلاليب، حتى النساء في الحناطير والكارو، يحملون الأعلام ويهتفون، وسمعت أزيز الرصاص، أجل لأول مرة أسمعه، ينطلق من اللوريات ومن فوق صهوات الخيل، ورأيت الإنجليز رؤية العين بقبَّعاتهم العالية وشواربهم النافرة ووجوههم الغريبة، ورأيت الجثث بالعشرات مطروحة في جوانب الميدان، ورأيت الدَّم البشري يُلطِّخ الملابس وأديم الأرض، وسمعتُ الحناجر وهي تهتف من الأعماق «يحيا الوطن»، و«نموت ويحيا سعد».