عيد منصور
من مجموعتنا العتيدة، صادَقَها وصادَقَتْه، واتَّصلت بيننا الأسباب على مدى العمر، ولكنَّه كان وما زال الصديق بلا صداقة، وكان وما زال بلا قلب، حتى خليل زكي له قلب، وحتى سيد شعير له قلب، أمَّا عيد منصور فلا قلب له. وكان يعيش مع أبيه وخادم عجوز ولا رابع لهم، أمَّا أمُّه فماتت عقب إنجابه مباشرةً، وكان أبوه تاجر عمارات، عمل مع اليهود طويلًا، واكتسب الكثير من أساليبهم ومهاراتهم، وكان عجوزًا فقد أنجبه وهو في الخمسين ولم يتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته فكان عيد وحيده، وكان بخيلًا، دقيقًا، فظًّا، جامد المشاعر فربى ابنه تربية شديدة لا رحمة فيها ولا مهادنة، مصمِّمًا على إخراجه على نمطه، فلم يعرف صديقنا المعاملة العاطفية، ولا جرَّب الحنان أو الرحمة، كأنما كان يتكوَّن في معسكر لإعداد الإرهابيين، لذلك تجلَّت مواهبه مُنذ سن مبكرة، فنشأ عمليًّا، صارمًا، ذا عقل نفعي، وبلا قلب، وما زال كذلك حتى اليوم والغد، ومنذ الصغر اتخذ من القرش معبودًا ومقياسًا للرجولة والتفوق، ولم يتسع قلبه إلا لذلك المعبود الأوحد، وكما قلت فهو الصديق بلا صداقة، صديق بحكم الجوار والزَّمالة واللعب وعشرة العمر، ولكن بلا عاطفة ولا مودة ولا حب حقيقي، يضحك للكارثة كما تضحك للنكتة، فلم يعانِ أي تأثر لموت شعراوي الفحَّام ولا لموت جعفر خليل، ويوم قُتل زميلنا بدر الزَّيادي في الإضراب لم يكن يُخفي ارتياحه لخلو الميدان من منافسه في رئاسة فريق الكرة، ولمَّا شعر يومها بعيني تحرقانه عضَّ على أسنانه ليمنع ضحكة من ضحكاته القاسية فقلت له: أنت شيطان!
فهمس في أذني: ربنا يسمع منك!
ثم بمزيد من السخرية: لا فرق بيني وبينكم إلا أنني صادق غير منافق!
واعتاد أن يعيش بحُكم تربيته ومزاجه خارج دائرة تقاليدنا وديننا وأشواقنا، بحكم تربيته ومزاجه، وبلا دخل من تفكير أو فلسفة، وبلا دافع من الفساد والشقاوة، كما كان الحال مع خليل زكي وسيد شعير، فلم تحتشد قواه إلَّا للعمل والربح وحدهما، حتى الجنس — وهو الترفيه الوحيد الذي مارسه — لم يشغل إلا هامش وقت فراغه. وما إن حصل على البكالوريا عام ١٩٣٠ حتَّى أشركه أبوه في العمل، وظلَّ يدرِّبه حتى مات عام ١٩٣٥ مخلفًا عليه ثروة طائلة. ورغم مغامراته في حديقة بيت آل الحملاوي فلا أعتقد أنَّه تعلَّق بامرأة مثلما تعلق بثريا رأفت، رآها وهو يعمل مع والده فاندفع في إغرائها، وقد قال لي: مر بي وقت وقعت فيه تمامًا تحت سيطرتها، ولو تمنَّعت عليَّ تمامًا حتى النهاية لربما …
وسكت فسألته: لرُبَّما تزوجتها؟
– على الأقل كنت فكرت في ذلك …
فسألته: ألم تحزن أو تخجل من الغدر بها؟
فقال وهو يضحك: لا أظن …
لم يعرف الحب، ولا رغبَ في الزَّواج، ولا حنَّ إلى الأبوة، وحتى اليوم وهو في الستين أو جاوزها بقليل ما زال يعمل بنفس الهمة، ويجمع المال بنفس النَّهم، ولم يعرف للحياة غاية أخرى. وكنتُ أضيق به إذا سخر من عواطفنا الوطنيَّة كما ضقت به يوم سخر من بكائي لوفاة سعد زغلول، ولكنَّه كان يستهين بكل ذلك ويقول: لولا الإنجليز، لولا اليهود، ما كان لهذا البلد حياة!
وظلَّ يُردد ذلك حتى آخر يوم للإنجليز في مصر. ومع أنَّه كان بخيلًا كأبيه إلا أنه استنَّ لنفسه سنة جديدة في البخل، فقرر ألا ينفق مليمًا لغير ما ضرورة بشرط أن يهيئ لنفسه حياة رغدة.
– أنا أعزب وسأظل أعزب، وبلا وريث فيجب أن أتمتع بحياتي.
طالما احتقر الزواج واعتبره عجزًا وغباءً، ويبدو أنَّه لا يندم على قرار اتخذه أبدًا، وكلما تقدَّم به العمر نَعم برضاه عن نفسه وعن قراراته، ومنذ عام ١٩٣٦ غادر حينا بعد أن باع البيت، وأقام في فندق مينا هاوس إقامة دائمة مُفضِّلًا الفندق لما يوفره له من خدمة شاملة، وليعفيه من هموم المسكن المستقل المتنوعة، وفي الوقت نفسه استأجر بيتًا ريفيًّا في الهرم لمغامراته النسائية المتقطعة، إذ لم يكن يحب العلاقات الطويلة، ويُفضِّل غواني الملاهي الليلية من الأجانب، ولم يضن على نفسه بفاخر الطعام والشراب مع اعتدال تام في الخمور، ونفور طبيعي من المخدرات. وكان يقضي لياليه في سمر تجاريٍّ مع العاملين معه في حقل تجارة العمارات، ولكنه لم ينقطع عنا في ليالي سهراتنا الأسبوعيَّة. وكان يهمه أن يقارن بين نجاحه وبين نجاح أصدقائنا أمثال الدكتور سرور عبد الباقي والأستاذ رضا حمادة، ولم يخفِ إدلاله بالتفوق عليهما في الثروة التي يعتبرها القيمة الأولى والأخيرة في الحياة .. وقد داعبته يومًا قائلًا: ها هو خليل زكي يناقشك في النجاح والثروة!
فقال باحتجاج: إنه قذر حقير.
فسألته: أتعتبر نشاطك المالي نشاطًا شريفًا؟
فقال بصراحة معهودة فيه: الشرف تتغير معانيه من بيئة لأخرى، قد أقوم بصفقة تعتبر في نظرك نهبًا، ولكنا نعتبرها خبرة وذكاءً، ولكني أحتقر أساليب خليل زكي التي تعد من خبرة الفقراء!
وأحبته غانية إفرنجية، ومضت تراسله، فكان يقرأ علينا رسائلها ساخرًا ويقول: هكذا تتوهَّم المرأة أنَّها تُحب إذا رغبت في الاستحواذ على رجل وامتلاكه!
وتجلَّت عواطفه العامَّة في أبشع صورة يوم نشبت الحرب بيننا وبين اليهود عام ١٩٤٨، حتى خُيِّل إليَّ أنَّه يكره وطنه لأسباب لا أدريها، أو أن مصالحه التجارية أفسدت عليه الميول التي نعتبرها فطرية، وتَكرَّر ذلك الموقف منه عام ١٩٥١ لدى إلغاء المعاهدة وكفاح القنال، ولذلك كان يكره الوفد بالرغم من لامبالاته السياسية بصفة عامة، على أنَّ حياته واصلت مسيرها في استقرار حتى قامت ثورة يوليو ١٩٥٢. ومع أنَّ الثورة لم تقتحمه بصفة عامَّة إلا أنها زعزعت طمأنينته وأقلقت ثقته. توالت عليه الهموم بإلغاء النظام الملكي وإعلان الإصلاح الزراعي والجلاء. توثبت في أعماقه غريزة الدفاع عن النفس، وأدرك — وإن لم يكن هدفًا مباشرًا — أنه ضمن الجبهة التي تهبُّ عليها العواصف، وأنها قد تقتلعه عاجلًا أو آجلًا، وهيَّأ له الاعتداء الثلاثي عملية نقل دم، ولكن سرعان ما انطفأت شعلة الأمل، واختفى من الميدان كثيرون من أصدقائه اليهود حتى قال لي يومًا: كم أتمنى أن أُهرِّب أموالي وأهاجر!
ولما قرأ الوجوم في وجهي قال: لم تعُد مصر بالمقام الصالح للأذكياء!
ثم ضحك ضحكته القاسية وقال: لو لم أكن مصريًّا لتمنيت أن أكون مصريًّا.
وتابع نشاطه بنفس القوَّة بالرغم من مخاوفه، واستردَّ أنفاسه في يونيو ١٩٦٧، ومع أنَّه راقبَ الأحداث التالية للهزيمة بدهشة وذهول إلا أنَّه لم يفقد الأمل هذه المَرَّة، وقال لي بشماتة: لا مفرَّ!
وقال أيضًا: طبعًا سمعت عن صحوة الموت!
ومرَّت أشهر، وعام وعامان وثلاثة أعوام، وتحسَّنت الأحوال، وصلبت الإرادة، وتجددت آمال النضال، ولكن ذلك لم يهزمه وإن أقلقه أحيانًا، واعتصم بفكرته الثابتة، وغذَّاها بمتابعة الإذاعات المعادية والإشاعات المغرضة، ولمَّا وجد مني ومن رضا حمادة اتهامًا لوطنيته قال: لا وطن بعد اليوم إلا وطن المصالح، فإمَّا أن تكون أمريكيًّا وإمَّا أن تكون سوفييتيًّا، إمَّا أن تقبل الحرية والإرادة الخلاقة والإنسانية، وإمَّا أن تقبل النظام والعدالة العمياء والإرادة الميكانيكية!
فقد الأمل في الإنجليز، وأصبح حلمه الذهبي أن تسيطر أمريكا على الشرق الأوسط، وأن تُحدد له مدارًا حضاريًّا في مجالها الحيوي، يلعب فيه العرب واليهود دورًا مُتكاملًا.
هكذا علَّمته المصلحة أن يتكلَّم في السياسة، وما زال يعمل، يُشيِّد العمارات ويبيعها، يُقيم في مينا هاوس، يستمتع بحياته كأعزب مقطوع من شجرة، ويُمارس الجنس كل شهر مرة، ويزورنا في أوقات مُحددة تحية لعشرة نصف قرن، صداقة بلا حب حقيقي ولا احترام، نراه مخلوقًا شاذًّا قُدَّ مِن حجر، ويرانا مجموعة من الحمقى العابثين بلا قيمة حقيقية.