غَانِم حافظ
كان مدرِّس الرياضيات في المدرسة الثانوية، وكان وقتها شابًّا، عُرف بالأدب والوقار وحسن المعاملة، فلم يخرج تلميذ في معاملته عن حدود الأدب، حتى الذين عُرفوا بالشقاوة مثل جعفر خليل وبدر الزيادي وعيد منصور. طلبه عيد منصور مَرَّة لدرس خصوصي بعد أن أقنع أباه بأنَّ أُجرة الدرس الخصوصي أرحم من مصروفات سنة إعادة. وقابل غانم أفندي حافظ والد عيد فسأله الرجل عمَّا يطلب؛ فطلب ريالًا في الساعة، ولكنَّ الرَّجل فزع، وقال: إنَّه لا يدفع أكثر من شلن، فابتسم غانم أفندي حياءً، واقترح أن يُعطيه الدرس مجانًا بشرط أن يحضره مع تلميذ آخر في نفس الحي، وقد كان. وتلقى عيد منصور درسًا خصوصيًّا في الحساب مجانًا طيلة شهرين! وقد رأيته وهو يبكي يوم مصرع بدر الزيادي، وكان جزاؤه مِنَّا حبًّا واحترامًا. وبعد التحاقي بالجامعة عرفته عن كثب في مقهى الحي، فتحوَّلت التلمذة إلى صداقة. وكان أهم ما يُميزه دماثة الأخلاق وهدوء الطبع وأناقة الملبس، كان يُجالسنا في يوم واحد في الأسبوع — وخاصةً في العطلة الصيفية — يُدخن النَّارجيلة، يصغي في أدب ومجاملة، وقليلًا ما يتكلَّم. وكان يُعالج شتى الموضوعات في إطار طبعه الهادئ، ومهما يكن من عنف الموضوع وشدَّة حرارته فإنه يتحوَّل على لسانه همسًا عذبًا تحيطه هالة باسمة. لم يُرَ غاضبًا أو محتدًّا أو صارخًا، حتى السياسة كان يترجمها حديثًا جذابًا لطيفًا غاية في الوداعة، ولو هوجِم حزبه المحبوب الوفد، وإذا تصدى للدفاع قال: إنهم ناس طيبون!
أو يقول: مصطفى النَّحاس؟ .. إنه رجل طيب مبارك!
وأقسى ما يذهب إليه في الدفاع أن يقول: سامحك الله!
واقتصر نشاطه السياسي على ذلك، وعلى التوجُّه يوم الانتخاب — إذا تقرر إجراء انتخابات حرَّة — إلى اللجنة لإعطاء صوته لمرشح الوفد. ولذلك لم يشترك في ثورة ١٩١٩ إلَّا بقلبه وحده. وكان جمَّ التواضع، لا يخجل من أصله بخلاف الكثيرين من أهل طبقته، فحدثني مرة عن أصله قائلًا: كان أبي شرطيًّا.
ثم قال: وكان هَمُّه أن يجعل مني شرطيًّا غير أن جارًا لنا — تاجرًا — نصحه بإدخالي المدرسة الابتدائية، ففعل، ونجحتُ نجاحًا استحققت عليه المجانيَّة حتى نلت البكالوريا، ولم أجد مدرسة ميسرة أمامي إلا المعلمين فدخلتها!
وتزوَّج من كريمة مدرس اللغة العربية، وكانت حاصلة على الشهادة الابتدائية.
– وكانت أسرة زوجتي على تواضعها أرقى من أسرتي؛ فصادفتني متاعب مؤسفة.
ثمَّ قال بشيء من الحزن وفي صراحة مؤثرة: كان الموقف يتطلب شخصًا أصلب مني! ولكن زوجتي أنجبت لي ثلاثة ذكور!
كان له يوم ترفيه واحد يمضيه في المقهى، ولا يُغادر أهله بعد ذلك إلا لعمل، ومرَّت أعوام حافلة بالتاريخ وهو قابع في عشه يراقب الأحداث من بعيد، يناقشها بهدوء، ويُعلق عليها برقة، مُركزًا على تربية أولاده الثلاثة حتى تخرَّج بكريه ضابطًا في سلاح الفرسان، والأوسط مُهندسًا ثم التحق بالجيش، والثالث بيطارًا. وقد نجا ابناه من حرب ١٩٥٦ بأعجوبة فحمد الله وشكره، وواصل عمله حتى أحيل على المعاش عام ١٩٦٠، وهو يتمتع بصحة جيدة وحياة زوجية سعيدة، ولما احتشدت قواتنا في سينا في أواسط عام ١٩٦٧ خفق قلبه بعنف بعد طول هدوء، وراح يسأل كل من هبَّ ودبَّ: حرب أو لا؟
ووقعت الواقعة، وانحسر الظلام عن شيء من النور، فرجع الابن الأوسط مصابًا إصابة غير قاتلة، أمَّا بكريه فاعتُبر من المفقودين، وهزته الصدمة من الأعماق، وتبدَّد هدوءُه التقليدي فانهار انهيارًا يدعو للرثاء، وكان يُحِبُّ أبناءه كأم، ورفض أن يُصدِّق أن ابنه قُتل، وظل يحلم دائمًا بمعجزة تُعيده إليه سالمًا. وما لبث ابنه الأوسط أن تماثل للشفاء فعاد إلى الجبهة، وبقي الرجل ممزقًا بين أحلامه عن المفقود وخوفه على المقاتل، وهو يتابع أنباء الجبهة ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، ترجفه أخبار الغارات في الأرض والسماء، ويخذله إيمانه رغم رسوخه، ويُزلزله حبه العميق لأولاده، وأراه أحيانًا شيخًا عجوزًا محني الظهر قليلًا، أبيض الشعر، يجلس شارد النظرة، يُفكر في المجهول، لا يُبشِّر منظره بقدرة على مواجهة الحياة بمطالبها الجامحة، فأحتار طويلًا بين العتب عليه والرثاء له، ثم أنضمُّ إليه مواسيًا، ثم نتبادل التخمينات عن الغيب.