فايزة نصَّار
تعرَّفت بها في بيت عجلان ثابت بالجيزة حوالي عام ١٩٦٠ كما تعرَّفتُ بزوجها في نفس الزيارة. كانت في الثلاثين، لوجهها طابع ريفيٌّ رائق بالرغم من أناقتها العصرية، وهي وإن تكن متوسطة الجَمَال إلا أنَّها ذات جاذبية جنسية قوية، أمَّا زوجها — عبده إبراهيم — فصاحب جراج في الخمسين، بدين مترهل خامل المظهر، يشترك في الحديث بالنظرة أو الابتسامة البلهاء، ولا يكاد يتكلم.
قال لي عجلان: إنَّها جارتنا في نفس العمارة وصديقة زوجتي.
فقلت: زوجها غير مقنع!
– ولكنَّه ذو دخل محترم، أنجب منها طفلين، وهي أم لا بأس بها وإن تكن أُمِيَّة!
– تبدو ذكية.
– في الأصل كانت ابنة بياعة جبن وزبدة، ولكن استعدادها للتأقلم قوي، وهي تتقدم بفضل الإذاعة والتلفزيون والصديقات.
وفي زيارة تالية لبيت عجلان ثابت قابلتُ فايزة نصَّار، وكانت بصحبة رجل أربعيني حاد البصر قوي الجسم، علمت أنه يدعى جلال مرسي وأنَّه صاحب كازينو الهرم، وقال لي عجلان ثابت باستهتاره المعروف: في المرة السابقة عرفت زوج فايزة، وها أنت تعرف في هذه المرة عشيقها!
وضجَّت الحجرة بالضحك، زوجة عجلان وفايزة وجلال صاحب الكازينو، وقال جلال: لا تُصدِّق!
فسألته فايزة بنبرة وعيد: هل تنكرني؟
فأحنى رأسه بخشوع وقال لي: صَدِّق يا سيدي.
قال عجلان ثابت: وهو صديق الزوج!
ودعتني فايزة لزيارة بيتها فتوطَّدت العلاقة بيني من ناحية وبينها وبين زوجها من ناحية أخرى. وذهبت في صحبتهما مرَّات إلى كازينو الوادي، فكان ينضم إلى مائدتنا جلال مرسي، ولمست مدى عمق العلاقة بينه وبين الزوجين. ولم أقطع برأي في مدى معرفة الزَّوج بالعلاقة بين زوجته وعشيقها، وحتى عجلان ثابت لم يعلم أكثر مما أعلم، ولكنه قال لي: تعوَّد على هذه العلاقات حتى تبرأ من عبوديتك البرجوازية.
ومرَّة وكنا مجتمعين في بيت عجلان أنا وعجلان وزوجته وفايزة. فأشار إليَّ دون تمهيد، وبلا مناسبة وقال لفايزة: إنه يُعاني من عشقه لك!
وانتقلت إلى جانبي بخِفَّة وطوَّقت عنقي بذراعها السمراء البضة وقالت: أرني!
فقال عجلان ضاحكًا: بهوادة حتى لا يفزع.
فقالت: ولكن تحت شرط.
وسألها عن الشرط فقالت: ليلة واحدة.
ثم وهي تنظر في عيني: المرأة الفاضلة يكفيها زوج وعشيق واحد!
هكذا كانت في مزاحها، ولكنَّها — فيما علمت — كانت تُحب جلال حبًّا حقيقيًّا، وكانت في الوقت نفسه تحرص على نقاء بيتها، وتربية طفليها تربية حقيقية، وقال لي عجلان: إن ما يتعبها حقيقة هو طموحها، فبالرَّغم من أُمِّيتها تحلم بأن تكون شيئًا عظيمًا!
فتساءلت: لعله المال!
– حياتها رغدة، ولكنها تحب المال، وشيئًا أكثر من المال.
– أي شيء؟
– الفن إنْ صدق تخميني!
ثم قال لي: كُلِّفت أن أدعوك لزيارتهم معي.
فقلت وأنا أتساءل عن السبب، فقال: يبدو أنَّه أمرٌ هامٌّ، وسنعرفه في الحال.
وجدنا فايزة وزوجها وعشيقها فسلَّمنا وجلسنا ونحن نشعر بأنَّ توترًا ما يكهرب الجو والوجوه، وسرعان ما قالت فايزة: المسألة وما فيها أنَّ أحد المخرجين عرض عليَّ دورًا هامًّا في فيلمه القادم!
ونظرتْ في وجوهنا وقالت: ما رأيكم؟
ولما رأيت عينيها تطاردانني قلت: المسألة تتعلق بكِ وبالسيِّد عبده أولًا وأخيرًا.
فقال عبده إبراهيم وهو يرفع وجهه ليجد الكلام ممرًّا خلال لغده: سيدات العائلات يمثِّلن في هذه الأيام.
ولكنَّ جلال مرسي تساءل: أودُّ أن أعرف كيف ومتى رآك، ذلك المخرج؟
فأجاب الزوج: رآنا ونحن عندك ليلة في الكازينو.
– وهل تجلَّت له موهبتها من النظرة الأولى؟
– هذا شأنه لا شأننا.
فقال جلال: كصديق مخلص لكما لا أوافق على دخولها ذلك الميدان.
فسألته فايزة وهي تبدو سعيدة رغم التوتر العام: لِمَ؟
– لم تظهري فيما سبق أي اهتمام بالفن.
– لَمْ توجد مناسبة.
– إنه لا يُولد فجأة ولا لمجرد أنَّ مخرجًا اقترحه.
– بل هكذا يولد.
فقال الزوج: أظن ذلك.
فقال جلال بحدة: إنهم لا يعرضون الأدوار لوجه الله.
فقال عجلان ثابت: لوجه الفن.
فقال جلال: ولا لوجه الفن!
فقالت فايزة: لست قاصرًا!
وقال الزوج: إنها أهل للثقة.
فقال جلال بإصرار: كصديق مخلص لكما لا أوافق.
فقال الزوج: هذه فرصة لا يجوز إهمالها.
ووافق عجلان على رأيه كما وافقتُ أنا، وكأنَّما كانت مؤامرة بلا تدبير سابق، وقام جلال مرسي فحيَّانا ومضى وهو يقول: قلت رأيي وأنا مصرٌّ عليه.
وقال عجلان بخبث: عليك أن تقابل المخرج في أسرع وقت.
وعندما غادرنا البيت أنا وعجلان قلت له: عبده إبراهيم بكل شيء يعلم!
فضحك عاليًا وقال: وانتهز الفرصة فوجَّه إلى غريمه ضربة موفقة.
– ولكنها ماذا ستفعل فيما ترى؟
فتفكَّر قليلًا ثم قال: إن صحَّ ظني فطموحها أقوى من عشقها!
وصدق ظنه، قامت بتمثيل الدور، وكانت مفاجأة فنية لا يُستهان بها، ودُعيت إلى تمثيل دورين جديدين.
وهجرها جلال فلم تسعَ لاسترداده، وما لبث زوجها أنْ طَلَّقها بحجة حماية بيته وطفليه من الجو الفني الذي أخذ يغزو بيته، ودلَّ بقراره ذلك على أنَّ خموله لم يكن إلا قشرة تخفي وراءها حقدًا طويلًا. وانتقلت فايزة إلى شقة صغيرة وأنيقة بالزمالك، وقد زرتها يومًا بصحبة عجلان فالتقيتُ عندها بالدكتور صادق عبد الحميد، وعشيقته الصحفية نعمات عارف زوجة الدكتور زهير كامل التي تخصصت أخيرًا في النقد الفني، ووجدت فايزة مرحة كعادتها، وسعيدة بالنَّجاح، حتى قال لي عجلان ونحن راجعان معًا: مُحتمل أن تحنَّ أحيانًا إلى طفليها ولكنها ليست بالتي تنهار بسبب ذلك، أعترفُ لك بأنني أسعد بنجاح أي فلاح أو فلاحة، مهما يكن ثمن ذلك النجاح!