قدري رزق
كان يتردَّد على شقة عدلي بركات الفاخرة في أوائل عام ١٩٤٨، وكان في الثلاثين من عمره أو دون ذلك بقليل، وطالما جالسنا ببدلته الرَّسمية كضابط في سلاح الفرسان، فيضفي على المجلس من روحه مرحًا وصفاءً، وبدا قليل الاهتمام بالسياسة والشئون العامَّة، ولولا محاولة بُذلت لاغتيال مصطفى النحاس ما فطنتُ إلى أنه ينطوي على ميول وفدية ورثها غالبًا عن أبيه الذي كان عضوًا بالهيئة الوفدية.
وكان ممشوق القوام أسمر واضح الملامح جذَّابها ذا شارب غليظ لا يني يُغازله في إعجاب وارتياح، وفي جلسات الأنس التي اشتهر بها مسكن عدلي بركات شهدت له غزوات مُوَّفقة مع فنانات كثيرات. وفي أعقاب حرب ١٩٤٨ اجتمع بنا في شقَّة عدلي بركات، وقد زايله المرح ووشت حاله عمومًا بامتعاض وقرف. وكنا — أنا ورضا حمادة — في غاية من الحزن، فطرحنا عليه العديد من الأسئلة لعلَّه يروي غلتنا أو يُبَدِّد من أفكارنا بعض الظلمات، ولكنَّه لم يمس التفاصيل وقال بإيجاز: لقد ضحَّى بالجيش بطريقة دنيئة قصدَ بها القضاء على كرامته وأرواح رجاله.
وهزَّ رأسه بضيقٍ وقال: لا يُمكن أن يمرَّ ذلك بلا ثمن!
فقلتُ ببراءة: لكننا لم نُهزم، الفالوجة نصر مبين.
فقال بحدَّة: بل هُزمنا، وحوصرنا بين عدوَّين، عدو في الخارج وعدو في الداخل.
واستجابت نفسي لغضبه بقدر ما وجدته متجاوبًا معها، وقال رضا حمادة: كلُّ ذلك نتيجة لحكم أحزاب الأقليَّة الذي مكَّن لطغيان الملك.
فقال قدري رزق: ونتيجة أيضًا لضعف الوفد الذي عجز عن تحقيق الإرادة الشعبية.
فاستاء رضا حمادة وقال: الوفد اعتمد دائمًا على ثورية الشعب، ولكنَّ الشعب تخلَّى عن ثوريته!
فقال قدري رزق الذي لم أرَه من قبل على تلك الدرجة من السخط: الوفد هو المسئول عن تخلِّي الشعب عن ثوريته!
وتوثَّقتْ علاقته بنا في تلك الأيام، وتعدَّدَتْ لقاءاتُنا بشقة عدلي بركات، وشهدنا معًا تدهوره حتى انتحاره، ولكنه لم ينقطع عنَّا فكان يجتمع بنا في بيت رضا حمادة أو في مقهى الفيشاوي، ورجع إلى طبيعته الأصلية، فقَلَّ اهتمامه بالسياسة والشئون العامَّة، وعاوده المرح والمجون والتفرُّغ لغزو الحِسان. ولمَّا قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ اكتشفنا أنه كان ضمن مجموعة الضبَّاط الأحرار؛ فعجبنا لقدرته الخارقة على الكتمان، وقد سهر معنا عشيَّة الثورة في مقهى الفيشاوي، وجلس كعادته يُضَاحكنا ويُسَامرنا، وعُدت معه قبيل منتصف الليل إلى العباسيَّة مشيًا على الأقدام من طريق الجبل، ثم مِلت أنا إلى العباسية الغربية، وواصل هو سيره شمالًا إلى مسكنه بشارع أحمد ماهر كما ظننتُ، أمَّا الحقيقة فإنه لم يذهب ليلتها إلى بيته، ولكنه مضى صوب منشيَّة البكري ليقود قوة صغيرة إلى احتلال مفترق طرق! وغيَّبته الأحداث عنَّا فترة غير قصيرة طُرد في أثنائها الملك، ثمَّ رجع إلينا وقد رُقي إلى رتبة جديدة. وتتابعت التطورات الهامَّة مثل الإصلاح الزراعي والجلاء وغيرها، ونحن نتلاقى بانتظام أسبوعي في بيت رضا حمادة قبل اعتقاله، واستمرَّ التلاقي بعد ذلك في بيتي أو بيته أو في مقهى الفيشاوي، وطيلة تلك المُدَّة لم يخرج حديثنا عن السياسة التي لم يعُد له من حديث غيرها، ولم يكن بيننا خلاف جدي، استطاعت الثورة أن تستأثر بقلوبنا وآمالنا في لحظة تاريخية أسطورية باهرة. وقال قدري رزق: اندثرت القوى الجهنمية التي كانت تعوق تقدُّم الشعب مثل الملك والإنجليز والحكَّام الفاسدون، ورجع الأمر إلى أبناء الشعب الحقيقيين، فهو حكم الشعب للشعب لخير الشعب، انتهى الفساد والانحلال، وسينطلق تيار الإصلاح والتقدم إلى الأبد.
وقلنا إنَّه آن للحلم أن يتحقق، وأن ينعم بالحرية والرقي والعدل ذلك الشعب الذي عانى الظلم والاستعباد والفقر والغربة آلاف السنين. أجل ساءنا بعض الشيء التوثُّب للقضاء على الوفد، وسأله رضا حمادة — قبل اعتقاله — أكثر من مرة: أليس الأفضل أن تتخذوا من الوفد قاعدة شعبية لكم؟
كما ساورتنا مخاوف من ناحية أمريكا، وخشينا أن تحل محلَّ إنجلترا بطريقة أو بأخرى، بعد ما شعرنا بمدى تأييدها للنظام الجديد، ولكنَّ قدري رزق قال: الأمريكان ذوو نفع كبير ولا خوف علينا منهم بفضل وطنية زعمائنا الجدد.
وحُلَّت الأحزاب وضُرب على أيدي الإخوان والشيوعيين، وكان قدري يتحمَّس لكل إجراء بلا قيد ولا شرط، حتى سألته مرة: ولكن من أنتم؟
فضحك، وتفكَّر مليًّا، ثم قال: نحن أصدقاء الوطنيَّة والعروبة والثورة، وأعداء الفساد والتعصُّب والإلحاد!
وقال أيضًا بحماسه الطيب: هدفنا تحرير الشعب مما يستعبده سواء أكان شخصًا أم طبقة، فقرًا أم مرضًا، ثم دفعه إلى المكان اللائق به تحت الشمس.
ونغَّص صفونا ما أصاب صديقنا رضا حمادة في شخصه وابنه وزوجته، وشدَّ ما تأثر لذلك قدري رزق وحزن، ولكن هوَّن من وقع المأساة القوة التي لاقاها بها صديقنا الجلد الصبور القوي، وكان قدري يُعْجَب به، ويقول عنه إنَّه رجلٌ ولا كل الرجال، ويتعَجَّبُ كيف أنَّ رجلًا مثله ورجلًا مثل الدكتور زهير كامل ينبتان من أرضٍ واحدة. وتتابعت أحداث مجيدة مثل الاتجاه نحو الكتلة الشرقية للتسليح، ومثل تأميم قنال السويس الذي بلغ بحماسنا درجة لم نعرفها من قبل، فثمل بذلك قدري رزق وثملنا. وقال لنا: أرأيتم؟ نحن مصريون أولًا وأخيرًا، لا أمريكيون ولا روسيون!
وتزوَّج قدري في تلك الفترة من كريمة أسرة كبيرة إقطاعية ممَّن طُبِّق عليهم قانون الإصلاح الزراعي، وكانت مفارقة تستدعي الملاحظة وتحتاج إلى تفسير، غير أنَّه يمكن اعتبارها ظاهرة عادية إذا نُظر إليها من النَّاحية العاطفية البريئة، ولم يغب عني أن صديقي كان فخورًا بمصاهرة تلك الأسرة رغم ثوريته وإخلاصه وطيبته، وأمَّا رضا حمادة فقال لي: إنَّها طبقة تتطلع إلى أن تحل مكان طبقة!
ثم كان الاعتداء الثلاثي وانقلابه على المعتدين، ولكن صديقنا قدري رزق أُصيب في ساقه، وفقد عينه اليسرى فاضطرَّ إلى ترك الجيش، وعُيِّن في وظيفة ثقافية كبيرة بوزارة الإرشاد. وبتوليته للوظيفة الجديدة بدأ اهتمامه بالثقافة لأوَّل مرة في حياته، فكان يعمل نهارًا ويَدرس ليلًا، وأثبت أنه عالي الهمة في التحصيل والإدارة. وكان في إجازة شهر العسل حينما نشبت الحرب فاستُدعيَ من بين أحضان عروسه للقيام بواجبه العسكري فأصابه ما أصابه. ولمَّا أُعلنت القوانين الاشتراكية بعد ذلك بأعوام بدأ يَدرس الاشتراكية بنفس الهمة التي دَرس بها الثقافة، وكان على استعداد دائمًا للإيمان بما تدعو الثورة للإيمان به؛ إذ إنَّ إيمانه الحقيقي كان بالثورة، بالثورة وحدها. والحقُّ أنه كان وما زال برجوازيًّا في أخلاقه وآماله وأحلامه وتقاليده، ولكنَّه كان وما زال برجوازيًّا ذا لسان اشتراكي، ولم يجِئْ ذلك عن نفاق أو خوف، ولكن بدافع إخلاص حقيقي للثورة وما تنادي به، وإنِّي لأعدُّه من أخلص الرجال وأنقاهم وأنزههم، كما كان من أشدهم سخطًا على المستغلين والمفسدين ممن خانوا أمانة الثورة، ولمَّا حاقت بنا هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧ زُلْزِلَ لها كيانه حتى خُيِّل إليَّ أنَّه يموت وهو حي، وتساءل فيما يُشبه الهذيان: أيذهب ذلك التاريخ كله هباءً؟!
ونظر في وجوهنا بوجه شاحب وتساءل مرة أخرى: أنركع مَرَّة أخرى تحت أقدام الرَّجعيين والاستعماريين؟!
وكان يجاهد بعنف ليسترد أنفاسه اللاهثة، وليخلق في الضياع أملًا جديدًا، وليحوِّل الهزيمة إلى درس وعبرة، وكُلَّما مرَّ يوم دون استسلام استرد بعضًا من عافيته، وعكف على أرض الواقع الصلبة يحفرها بأظافره لعلَّه يستخرج منها بعض قطرات من ندى الأمل. وما أشبهه في ذلك بالدكتور عزمي شاكر أو الدكتور صادق عبد الحميد، وكان يقول: ما تاريخ العرب الحديث إلا سلسلة من الهزائم أمام الرَّجعية والاستعمار، ولكن ما يكاد اليأس يُخيِّمُ حتى ينبثق من ظلماته نور جديد، وهكذا ذهب التتار والصليبيون والإنجليز وبقي العرب!
وهو يريدُ للثورة أن تبقى، وأن تنتصر، مهما كان الثمن، كيلا تتعثر النَّهضة في زمن لم يعد يسمح بالتخلف يومًا واحدًا، ويتابع أنباء القتال وهو آسف على أنه لم يعد في إمكانه الاشتراك فيه، ويُحْزنه أن نتلقى ضربة دون أن نردَّها بالمثل، ولذلك فهو ينتظر على جمر اليوم الذي نستكمل فيه استعدادنا للقتال، إنه يعيش يومًا فيومًا بل ساعة فساعة في متابعة وقلق وترقُّب وأمل ومحاسبة للنفس لا هوادة فيها. وبصرف النظر عن آراء الأستاذ سالم جبر المتناقضة، وسخريات عجلان الحادَّة، وانتقادات رضا حمادة المُرَّة؛ فإنَّ قدري رزق يُعتبر رجلًا مُحْترمًا ومُخْلصًا من رجال ثورة يوليو، وقد يتعذَّرُ تعريفه على ضوء المبادئ العالميَّة، ولكن يمكن تعريفه بدقة على ضوء الميثاق، فهو يُؤمن بالعدالة الاجتماعية إيمانه بالملكيَّة الخاصَّة والحوافز، ويؤمن بالاشتراكية العلمية إيمانه بالدين، ويؤمن بالوطن إيمانه بالوحدة العربية، ويؤمن بالتراث إيمانه بالعلم، ويؤمن بالقاعدة الشعبية إيمانه بالحكم المطلق، وعندما يُقبل عليَّ وهو يعرج ويُطالعني بعينه الباقية ينبض قلبي بالمودة والإكبار.