كامل رمزي
تعارفنا عام ١٩٦٥ في بيت الدكتور عزمي شاكر، كان حديث عهد بالحريَّة بعد أن قضى في الاعتقال خمسة أعوام. وهو أسمر نحيل طويل أصلع كبير الرَّأس صغير العينين برَّاقهما في الخمسين من عمره، دكتور في الاقتصاد، وكان أستاذًا بكلية التجارة حتى تاريخ القبض عليه. قلت له: قرأتُ كتابك عن المذاهب الاقتصادية وأشهد بأنه أمتعني بقدر ما أفادني.
فشكرني وقال: كانت الحياة الجامعيَّة تناسبني جدًّا!
وقال الدكتور عزمي شاكر: اتُّهم خطأً بالنشاط العملي أمَّا الحقيقة فهي أنه أستاذ مفكر، لا يجاوز نشاطه مجال التفكير والتأليف.
وفي نفس الأسبوع الذي تعارفنا فيه وُلِّي منصبًا كبيرًا، وقال لي عزمي شاكر للمناسبة: إنَّه مثالٌ في العلم والحزم والنَّزاهة.
وكان صديقًا لسالم جبر وزهير كامل، وعرَّفته بدوري لرضا حمادة وقدري رزق والدكتور صادق عبد الحميد، فنال احترامهم جميعًا، ولكن لم يُغالِ أحد في حبه! وقد أشعرني حديثه بالصدق والصراحة والعلم، وهو مِمَّن أتموا تعليمهم بإنجلترا، وذو اطلاع شامل في الاجتماع والسياسة، وله قدرة فائقة في المناقشة والجدل، ويتكلم إذا تكلم بثقة وصراحة وقوة، ولا يؤمن في شيء بالحلول الوسطى، ولا بالمجاملة، ولا بالتسامح، بل يؤمن برأيه لحد التعصب، ولا يطيق المعارضة فهي تثير أعصابه وتُخرجه عن الاتزان اللائق بمركزه، فسرعان ما يهدر غاضبًا بالحجج والأدلة وكأنَّه يخوض معركة حامية. وهو يُشبه عبد الوهاب إسماعيل في تعصُّبه على تناقضهما في الأسلوب، حتَّى قلتُ مرة للدكتور عزمي شاكر: إنَّه عالِم ولكنَّه ذو عقلية دينية.
فقال: إنَّه متعصِّب بلا شك، ومشتعل في مناقشته، ولكن أعصابه لم تفسد بهذه الصورة إلا بعد تجربة الاعتقال.
وبمزيد من الاختلاط به عرفت زوجته وهي دكتورة في الاقتصاد أيضًا، ومدرسة بكلية التجارة ومثال مشرِّف للمرأة المصرية. وعرفت له أسلوبًا في الحياة يُعتبر غريبًا في عصرنا، فهو يميل إلى التقشُّف في ملبسه وطعامه الذي يُشبه الرجيم، وإلى ذلك فهو لا يُدخن ولا يذوق الخمر، وقد قال لي مرَّة: لم أعرف المرأة قبل الزواج، وقاومت جميع المغريات وأنا طالب في البعثة!
وأدهشني أن يصوم في رمضان رغم إيمانه الكامل بالمادية الجدلية وسألته: ما معنى ذلك؟
فضحك قائلًا: كان أبي عاملًا بسيطًا، وكان متدينًا، فربَّانا تربية دينية شاملة فنشأت في أحضان الأخلاق الإسلاميَّة، ولم أستطع بعد ذلك التخلي عنها إلا فيما يُناقض عقيدتي الجديدة، وكان الصيام فيما استبقيت من العادات القديمة، فهو رياضة تناسب سلوكي تمامًا.
وتفكَّر قليلًا ثم قال: العظمة الحقيقية للدين لا تتجلى إلا عندما تعتبره لا دينًا!
وذكَّرني في الحال بالحاج زهران حسونة، فذُهلت للفارق الهائل بينهما مثل الفارق بين ملاك وشيطان، وقلت له: لا يمكن أن تخلو حياتنا من تناقضات كثيرة.
– المهمُّ أن نعمل للمستقبل.
– وطبعًا أنت تُؤمن بالشيوعيَّة؟
– ذلك حق.
فسألته باسمًا: أتعتبر نفسك مُخلصًا للثورة التي تعمل في جهازها؟
فقال بوضوح وقوة: خُلقت لأعبد العمل وأُخلص له.
– إني أسأل عن إخلاصك للثورة؟
فأخذ شهيقًا عميقًا كأنه الترجمة الجسمانية لتفكيره وقال: لم أكن في يوم من الأيام ذا وجهينِ، وما دُمت قد قبلت العمل في جهازها فأنا مخلص لها.
فقلتُ باسمًا: هذا هو الجواب الذي أسأل عنه، ولكن ينقصه شيء ما!
– عظيم، أنا مخلص لها ولكني غير مؤمن بها، أو غير مؤمن بها إيمانًا كاملًا، حسبي في الوقت الراهن أنَّها تمهد السبيل إلى الثورة الحقيقية!
فأشرتُ إلى صديقنا الدكتور عزمي شاكر وقلتُ: ما أشبه موقفك بالموقف الذي اتخذه هذا الرجل من بادئ الأمر.
فضحك، ورغم ضحكه قال بحدَّة: لقد سلَّم قبل المعركة أمَّا نحن فسلَّمنا بالأمر الواقع بعد أن أثبتت المعركة عقمها.
– لعلَّه كان أبعد نظرًا!
– اسمح لي في هذه الحال أن ألعن بُعد النظر!
وكان عزمي شاكر كبير الإعجاب به، وكذلك رضا حمادة على تناقضهما في المبدأ، وكانت شخصية كامل رمزي تغرينا بتحليلها وتقييمها، ويومًا قال رضا حمادة: لقد تشفَّعْتُ به في نقل موظف فأعطاني درسًا قاسيًا في فساد الوساطة، ومع أنني استأت في نفسي إلا أنني ازددت إعجابًا به.
فقال عزمي شاكر: بل أوصاه وزيره بموظف فاعتذر من عدم التنفيذ حرصًا على مبادئ العدالة!
فقلتُ بدهشة: وزيره نفسه؟
– أجل، إنَّه خلق صلب غير قابل للثني، ولذلك أشك كثيرًا في إمكانية بقائه في منصبه!
فسأله رضا حمادة: هل يستغنون عن موظف لاستقامته؟
– إنَّ الأسباب التي تدعو للاستغناء عن موظف لاستقامته أكثر من الأسباب التي تدعو للاستغناء عنه لانحرافه!
واعترف لي كامل رمزي نفسه بأنَّ أحدًا في إدارته لا يُحبه بدءًا من الفرَّاش حتى الوزير، قال: لا أستطيع أن أهتمَّ بعواطف الناس والمصلحة العامة معًا، إن منصبي يحتاج لأُلعُبان لا لموظف أمين!
ثم قال بازدراء: نحن شعب المصاطب والمجاملات والمساومات.
وضحك عاليًا وقال: لقد عبدنا مصطفى النَّحاس يومًا لا لشيء إلا لنزاهته وصلابته في الحق، وهما صفتان جديرتان بكل مواطن عادي، ولكن لندرتهما جعلنا منهما دعامتين أساسيتين لزعامة شعبية!
فسألته: هل عبدت مصطفى النحاس يومًا؟
فقال بصراحته المعهودة: كنتُ وفديًّا، وعطفي على الوفد عاش طويلًا في نفسي حتى بعد نضوب إيماني به.
وحملق في وجهي بعينيه البراقتين وقال: قُل في الوفد ما شئت، ولكن لا تنسَ أنَّه كان حزبًا شعبيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأنَّه كان يغيِّر سياسته أحيانًا إذعانًا لمشيئة التلاميذ بالمدارس الثانوية!
ثم حَدِّثني عن أحداث عام ١٩٣٥، وكيف ناقش مصطفى النحاس ضمن وفد من الطلبة، وكيف احتدت المناقشة بين الطرفين، وكيف عدل الوفد عن تأييد وزارة توفيق نسيم، فأعلن الثورة على لسان مكرم عبيد، وكيف سالت الدماء عقب ذلك بأقل من ساعة!
ولم يُعمِّر كامل رمزي — كما تنبَّأ عزمي شاكر — في وظيفته طويلًا، باشرها عامًا واحدًا حتى ضجَّ جميع أهل الأرض من صلابته ونزاهته، وإذا بجرائد الصَّباح تنشر خبر نقله إلى مؤسسة صحفية.
ومن عجب أن عمَّت الشماتة به أكثرية الناس، ولم أدهش لذلك كثيرًا، وذكرت في الحال مأساة الأستاذ طنطاوي إسماعيل رئيس السكرتارية القديم، كما ذكرت الدكتور سرور عبد الباقي، وقلتُ لنفسي إنَّ أمثال أولئك الرجال يُغلقون الأبواب في وجوه الوصوليين والانتهازيين وما أكثرهم، كما إنَّهم بقوَّة أخلاقهم يفضحون الضعفاء أمام أنفسهم فيمتلئون حقدًا عليهم، لذلك لم أسمع رثاءً له إلا بين خاصة أصدقائه، وأمَّا هو فقد غضب وفاضت نفسه مرارة وخُيِّل إليه أن نواميس الطبيعة تقلقلت وشذت عن مداراتها، ولكنَّ ذلك لم يمنعه من مزاولة عمله الجديد بنفس الهمة والنزاهة والقوة السابقة، بل إنَّه وجد فراغًا لم يكن يجده فاستأنف نشاطه العلمي، وشرع في وضع قاموسه السياسي، وكان وما زال شعلة من النشاط المتواصل، ونورًا يطارد ظلمات اليأس.