ماهر عبد الكريم
كان أستاذًا مساعدًا بالكليَّة عندما التحقت بها عام ١٩٣٠، وكان في منتصف الحلقة الرابعة، يتمتع بسمعة علمية وأخلاقية وإنسانية كأنها عبير المسك، ولم أعرف أستاذًا فتن طلبته بسجاياه الرُّوحية وسماحة وجهه مثله، وهو سليل أُسرة عريقة، عُرفت بثرائها كما عرفت في التاريخ الحديث بولائها للحزب الوطني، وعُدَّ هو بالتبعية من الموالين للحزب، ولكن ذلك لم ينل من حبنا له، والحقُّ أنه لم يُعلن عن ميل سياسي قط، ولم يقع في رذيلة التعصب أبدًا، ولم ينطق في حديث عن هوًى أو تحيُّز أو حقد، ووهب نفسه للعلم والخير، قال لنا مرة الدكتور إبراهيم عقل: لو كان جميع الأغنياء مثل ماهر عبد الكريم لقررتُ أن المثل الأعلى للإنسان أن يكون غنيًّا!
والحقُّ أنَّ كرمه كان يلتهم ثروته، فلم يصد مُحتاجًا قط، وكان يجود بالإحسان سرًّا كأنما يتستر على عيب، وكان مثالًا لسعة الصدر، هكذا كان في مناقشاته العلمية والعامة، بل والسياسة إذا جُر إليها جرًّا، وكأنَّ أسارير وجهه لم تُهيأ أصلًا إلا للتعبير عن التأمل أو الترحيب أو البشاشة، وغير قابلة للإفصاح عن الحدة أو الغضب. وكان قَصْرُه القديم بالمنيرة ملتقى أهل العلم والأدب والفكر، وبه متسع دائمًا لطلبته فيقدمهم إلى الكبار ويُعاملهم معاملة الأنداد، وما أكثر الذين عرفتهم في صالونه من رجال الفكر. وكان التيار الجارف في أحاديث الصالون ثقافيًّا بالمعنى العام، ولم تكن السياسة لتخالطه إلا في ظروف نادرة، ومع ذلك لم يتردد الأستاذ سالم جبر عن إثارة موضع فوارق الطبقات يومًا من أيام عام ١٩٣١ عقب عودته من رحلة في فرنسا، قال: إنَّهم في بعض الأوساط يحتقروننا لسوء حال شعبنا!
فابتسم الدكتور ماهر عبد الكريم وقال: أعتقد أنَّها حالة سيئة.
فقال الدكتور إبراهيم عقل مخاطبًا سالم جبر: إنك تزور في فرنسا أوساطًا مُتطرفة لعلَّها تضمر نفس الاحتقار لفرنسا أيضًا، على أنَّ الإنسان لا تتقرر حاله الحضارية بما يملك، ولكن بما ينبض به فكره وقلبه، وأنا شخصيًّا أعتبر الفقير الهندي أجل إنسانية من فورد أو روكفلر!
واحتدَّ سالم جبر فاتهمه بالمثالية الرجعية، كما اتهمه بالصوفية التي يُعدها مسئولة عن تأخر الشرق.
ولم يكن ماهر عبد الكريم يُفكر كما يُفكر سالم جبر، ولكنه اعتقد دائمًا بأنَّ الإسلام يكفل للناس عدالة اجتماعية شاملة، كما اعتقد أنَّ نشر التعليم يحقق الغاية نفسها بطريقة أخرى. ويومًا دعاني أنا وجعفر خليل — عقب إحدى المحاضرات — لمقابلته في قصر المنيرة، ووجدناه وحده في بهو الاستقبال، فرحَّب بنا وقال: ستزورني آنسة أمريكية بناءً على طلبها، وقد اخترتكما مترجمينِ بيني وبينها.
وكان يجهل الإنجليزية، ولعلَّه فضَّل أن يستعين بنا على أن يستعين بأحد من زملائه الكبار، حتى تتبين له أسباب الزيارة الغريبة، وعند الغروب قدمت فتاة شقراء آية في الجمال في العشرين من عمرها، فسلَّمت وجلست وهي تعتذر عن تَطفُّلها، وقُدِّم لنا الشاي والحلوى، وراحت الفتاة تقصُّ قصتها فقالت إنها تزور مصر ضمن مجموعة من الشباب، وإنَّ أمها كلفتها بالبحث عن شخص في مصر يُدعى ماهر عبد الكريم كان طالبًا بالسوربون في أعقاب الحرب العظمى، وإنَّ مدير الفندق دلها عليه وطلب قصره لها بالتليفون، ووضح لنا من تبادل الحديث أنَّ أمها كانت زميلة لأستاذنا في باريس، وأنَّها كانت صديقته أيضًا، وأنها انتهزت فرصة سفر ابنتها إلى مصر لتحمِّلها تحياتها إليه.
وعلى طول الزيارة دار الحديث حول الذكريات القديمة الجميلة، وما آل إليه حال الصديقين القديمين في الوقت الحاضر. وعندما غادرنا القصر قلتُ لجعفر خليل: الظاهر أنَّ تأثير أستاذنا فيمن حوله سجية قديمة فيه منذ عهد الشباب.
فغمز جعفر بعينه وقال ضاحكًا: ولكن التأثير في النساء ذو مغزًى آخر!
ثمَّ قال بإيمان: الحق أنَّ جمال الرَّجل يُؤهله لدور الفتى الأوَّل في أفلامنا!
فردَّدْتُ قول الفرزدق الذي كان يُذكرني دائمًا بوجه أستاذنا:
وقلت لجعفر: ما أتصوَّره أبدًا متخلِّيًا عن وقاره، فإذا كان الوقار لباسًا لغيره فهو منه بمثابة اللحم والعظم.
والحق أنه لم يؤخذ عليه طوال حياته ما يمس السمعة أو السلوك. وعند هذه النقطة أرى لزامًا عليَّ أن أعرض لشائعة اقتحمته في فترة القلاقل التي اتسمت بالاغتيالات السياسية في أعقاب الحرب العظمى الثانية. قيل إنَّه رفع خطابًا سريًّا إلى الملك فاروق يُحذر من مغبة التمرد الذي يجتاح الشباب، مُفصِّلًا أسبابه وبواعثه ومقترحًا العلاج له. سمعنا ذلك فيما نسمع من شائعات في المقاهي، وحتى اليوم لم أتأكد من صدق الشائعة، وكل ما قيل عنها كان ضربًا من التخمين، ونتيجة للأهواء السياسية المتنازعة، فقال وفديُّون إنَّه اقترح على الملك حل الأحزاب وإقامة ديكتاتورية صالحة تُعجِّل بالإصلاح وتُربي الشباب تربية دينية علميَّة، وقال المتطرفون من تلاميذ سالم جبر إنها دعوة لثورة مضادة يُراد بها تفادي الثورة الحقيقية، أمَّا أنا فساءتني الرِّسالة — مهما كان مضمونها — باعتبارها انتهاكًا لحريَّة الدستور واستهتارًا بسلطة الشعب، ووجدتُني في حرج شديد بين إجلالي لأستاذي وبين موقفي السياسي الواضح، ووجدتُ حرجًا أكثر من مفاتحته بالموضوع، غير أنَّ جعفر خليل وجد الجرأة لمفاتحته! حدث ذلك عندما زُرنا الأستاذ معًا ليُودعه جعفر خليل قبل سفره إلى الولايات المتحدة، وعند ذاك أخبره صديقي المرحوم بما يُشاع وبما يُقال، وأنصت الدكتور في هدوء وابتسام، ثم سأله: صَدَّقت ما يُشاع وما يُقال؟
فتراجع جعفر خليل قائلًا: كلا.
فاكتفى الأستاذ بقوله: عظيم!
ويدعوني ذلك إلى تذكُّر رأي رجلين فيه، أحدُهما صديق له قديم هو الأستاذ سالم جبر، والآخر مريد من مريديه هو الأستاذ عبَّاس فوزي، أمَّا سالم جبر فكان يحبه ويعجب به، ولكنه يرى أنه من طبقة النبلاء لم يعرف الفقر ويرى الشعب من فوق وله رؤيته الخاصة، وهي رغم جاذبيتها ونقائها غريبة عنَّا كأنها لغة كوكب آخر.
أمَّا عباس فوزي — معجم السخريات اللاذعة — فكان يُعرب عن رأيه فيه، ولكن في حذر وعلى مهل، ونقطة نقطة مُتجنبًا سكب ما في نفسه دفعة واحدة، فيومًا قال عنه: إنَّه وجيه نبيل، مملوك من نسل مماليك!
وتأملتُ قوله طويلًا على ضوء ما أعرفه من خبثه، وساءلت نفسي عَمَّا يقصد الشيطان، ومرة استمع إلى ثناء جميل مني على الأستاذ ثم قال: هذه هي فضائل الأغنياء النبلاء وهي فضائل لم تتعرض للتجارب المريرة!
ومرة ثالثة قال لي: في مصر لا يجتمع النبل والثروة والعلم، ولكن النبيل الغني متعالم، يستغلُّ ذكاء الفقراء، يجمعون له مواد البحث ويقترحون عليه الأفكار، أمَّا هو فيصغي بوقار ويوقع بإمضائه!
ومرة رابعة قال لي: أستاذك ذوَّاقة لكل طعام جيد، يلتهم في اليوم ما يكفي لغذاء لواء من الجيش، خبِّرني يا عزيزي متى يفرغ من الهضم ليتفرغ للتفكير والبحث؟
ولكنا كنا نتصل بعقل الأستاذ اتصالًا مُباشرًا، ونُدرك مدى ما يتمتَّع به من دقة ووضوح وغزارة في العلم، ومرَّت به الأحداثُ وهو ثابت في وقاره، ولكني استشففت قلقًا في ذاته في مواقف من حياتنا لا تُنسى، مثل الاغتيالات السياسية، حريق القاهرة، ثورة يوليو، القوانين الاشتراكيَّة، ولكنه لم يُجاوز القصد أبدًا، ولا أظنُّ أنَّ إقطاعيًّا تلقى الضربة التاريخية في مثل هدوئه، تلك الضربة التي نزعت من يده عشرة آلاف من الأفدنة، وقد باع قصره القديم بالمنيرة، واشترى فيلا جميلة بمصر الجديدة، ما زالت حتى اليوم تستقبل أهل الفكر والرأي، وواصل عمله الجامعي بنفس الهمة حتى أُحيل إلى المعاش عام ١٩٥٤ لبلوغه السن القانونية، فعمل أستاذًا زائرًا، وعُيِّن عضوًا في المجلس الأعلى للآداب، ونال جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، كما نال وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، إذن قدَّرت له الثورة مكانته العلمية، وسمعته العطرة، واستقامته العامَّة التي أبعدته عن الشبهات، وهو وإن لم يعلن ولاءه للثورة لبُعده عن مجالات الإعلام ولرغبته عن إقحام نفسه فيها بطريقة غير طبيعيَّة أن يرمى بشيء مما يمس الكرامة، فإنه لم يتردد في إعلان ذلك الولاء في مجالسه الخاصة، فقال يومًا: إني مقتنع بما يقع فهو أقل ما يمكن عمله كي يصلح الوطن للحياة وتصلح الحياة له.
ولم أستشعر في حديثه أو سلوكه أيَّ أثر لمرارة، ولا معنى بعد ذلك للتنقيب في الأفئدة، فلا يطالب مثله بأكثر من ذلك، أكثر من أن يُواجه بحكمة ثورة تاريخية منطلقة أصلًا لاقتلاع طبقته، وأن يُقنع نفسه بها فلسفيًّا كحركة تاريخية حتمية لا مفرَّ منها طال الزَّمان أو قصر. وفي عام ١٩٦٩ احتفل بعيد ميلاده الخامس والسبعين، فازدحم الصالون بمن بقي على قيد الحياة من أساتذة الجامعة القدامى، وبالأصدقاء سالم جبر ورضا حمادة وعزمي شاكر وكامل رمزي وقدري رزق وجاد أبو العلا وعباس فوزي وصادق عبد الحميد ونعمات عارف نيابة عن زوجها زهير كامل، وهفت عليَّ ذكريات إبراهيم عقل وجعفر خليل، ورأيت قلة من الشباب بينهم صبري جاد وزوجته كاميليا زهران، ولكن غلب الشعر الأبيض والتجاعيد والنظرات المجردة والعصي، ولم أشعر من قبل كما شعرت ذلك اليوم بمرور الزمن وثقله وجلاله وغدره وأبديته وأثره وترفُّعه وتواضعه وحكمته ونزقه، كأنَّما غفوت في الديزل إغفاءة طويلة استيقظت بعدها في محطة سيدي جابر. ورغم كل شيء فقد بقي لماهر عبد الكريم عيناه الزرقاوان الواسعتان وابتسامته الغازية ووقاره العذب. قال أستاذنا: لا احتفال بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فلا يجوز أن نحتفل ونحن نقاتل، ولكنها فرصة طيبة للاجتماع.
وشرَّق الحديث وغرَّب ولكنه كان يرتد إلى بؤرة واحدة وهي الصراع في الشرق الأوسط، ويُعالج على مستويات سياسية واقتصادية وفلسفية ودينية، ويتفرع إلى الموقف العالمي والكشوف العلمية والمشكلات العامة الإنسانيَّة والاضطرابات الخطيرة في الغرب والشرق وذبول القيم والمستقبل، أجل المستقبل، وبأي وجه يطالعنا، وطغت موجة من التشاؤم، وترددت كالهَنْك المطرب بين الشيوخ، طوبة يرمون بها الدنيا المولية، واشترك أستاذنا في الجوقة ولكن بنغمة أخرى، وفجأة قال: رحم الله إبراهيم عقل.
ما الذي دعاه إلى تذكُّره؟ كان أحب الأصدقاء إلى قلبه، ولم أشهد دمعه إلا يوم جنازته عام ١٩٥٧، وتذكرت بدوري كلمته لنا قبيل التخرج، وعاد يقول: سلَّم بالإيمان تسليمه بالموت وبالحقائق الملموسة مثل شروق الشمس.
وابتسم طويلًا ثم قال: قولوا في الدنيا ما شئتم، لا جديد في التشاؤم، ولكن الحياة في صالح الإنسان وإلا ما زاد عدده باطراد، وما زادت سيطرته على دنياه.