محمود درويش
كان يستلفت الأنظار بين طلبة الكليَّة بطول قامته ونحول قده، وسرعان ما تميَّز بذكائه واجتهاده الخارق، فاكتسب مكانة محترمة بين الزملاء ولدى الأساتذة المصريين والأجانب، وكان دقيق الملامح وسيمًا، ولكنه كان أيضًا جافًّا منطويًا على نفسه، يُزامل ويُصاحب، ولكنه لا يعرف الصداقة، كان صديقه الحقيقي الكتاب، وكان أبوه إمام مسجد بالجيزة، يشكو كثرة العيال وقلة المال، فكان محمود درويش يُعاني حياة متقشفة، ومن أوَّل يوم نشأ سوء تفاهم بينه وبين عجلان محمود، وهو يقول إنَّ أباه إمام مسجد فضحك، فسأله محمود درويش: ماذا يُضحكك؟
فأجاب عجلان: ألا يضحكك أن تكون الإمامة وظيفة؟
فغضب محمود وقال له: أنت قليل الأدب.
وهتف به عجلان: اخرس!
وفصلنا بينهما، ولكنَّهما أصرا على الخصام إلى النهاية، وفي حادثة سرقة الطربوش التي اتُّهم فيها عجلان شهد محمود ضده، وكان ضمن الأسباب التي أدت إلى فصله من الكلية، وقد عاتبناه في ذلك ولكنه قال: لا خير في أن نُقدِّم للمجتمع لصًّا متعلمًا.
وكانت آثار الكبت والحرمان تتجلى في عينيه كلَّما وقع بصره على طالبة من الطالبات. وأمَّا سعاد وهبي فكادت تتسبب في جنونه، ولكنه بدلًا من أن يُغازلها أو يحاول ذلك على الأقل راح يحمل على «تهتكها» حملة كادت تبلغ العلانية، وكان أول من أبلغ العميد عن تبرجها، وعن الفتنة التي تثيرها في قاعة المحاضرات، والظاهر أنَّه تعرَّض لأزمات عنيفة وصراعات حادَّة بين حيويته وبين حرمانه الإجباري، فلم يجد أبوه حلًّا لذلك — بعقليته الريفية الدينية — إلا أنْ يزوجه من ابنة عم يتيمة يكفلها فرجع إلى الكلية في العام الدراسي التالي متزوجًا من فتاة ريفية أُمية، ولكنها أراحت باله، وأطلقت قواه في التحصيل دون عائق. ولم يعد له من اهتمام إلا العلم والتفوق، وكان إذا احتشد لكتابة بحث ما نُكلَّف بكتابته في أثناء السنة الدراسية كتبه بذكاء واقتدار وأحاط به إحاطة تقطع باطلاعه الواسع وبدرايته في استخراج المراجع، ولذلك كان يتابعنا أحيانًا ونحن نهدر بأحاديث السياسة، وكأنه عاقل يستمع إلى مجانين، وتساءل مرة: كيف تجدون متسعًا بعد ذلك للدراسة؟
فأجابه طالب متعجبًا: كأنَّ الإنجليز يحتلون وطنًا غير وطنك، وكأنَّ الملك يستبد بشعب غير شعبك!
ولم يكن يفرِّق بين مصطفى النحاس وإسماعيل صدقي، وأحيانًا كان ينسى اسم «الباشا» الذي يرأس الحكومة، ولمَّا اجتاحت موجة الإضراب الجامعة وقف حيالها غاضبًا وعاجزًا، وكان يتسلل إلى المكتبة فيقرأ ويقرأ وحده، حتى تغلق أبوابها. ويومًا وثب إلى منصة الخطابة عقب خطبة ثورية ألقاها زعيم الطلبة، وثب إلى المنصة، وبجرأة جنونيَّة، دعا الطلبة إلى الانتظام في العمل والعكوف على الدراسة باعتبارها هدفهم الأسمى، وهاج الطلاب وماجوا، وطالبوا بإنزاله، ولولا الاحترام الذي اكتسبه بتفوقه لاعتدوا عليه اعتداءً مؤكدًا. وصدر أمر بإغلاق الجامعة شهرًا، وفي أثناء ذلك قُبض على زعماء الطلبة جميعًا، ولمَّا عُدنا إلى الكلية وجدت همسًا تتناقله الألسنة قال لي جعفر خليل: سمعت؟ .. يقولون إنَّ محمود درويش متصل بإدارة الأمن العام.
فاستفظعت ذلك ولم أصدقه فقال: يُقال إنَّ الذي رشحه لذلك أبوه باعتباره من ألسنة إدارة الأمن وعيونهم!
– ولكنه شابٌّ مستقيم!
فقال بحزن: ويُقال إنه هو الذي أرشد إلى زعماء الطلبة!
كانت إشاعة قوية، ولكن لم يكن من سبيل إلى التأكد منها، وقد تحرَّش به بعض الطلبة وعَرَّضوا بدوره في المؤامرة، ولكن الدكتور إبراهيم عقل استدعاهم إلى مكتبه وهدَّدهم — إذا عادوا — بإبلاغ أمرهم إلى الجهات المختصة. وعاشت الإشاعة معي زمنًا طويلًا، وخلقت في نفسي نفورًا منه، وبخاصة وأنني استثقلت ظله من أوَّل يوم، وكدتُ أومن بصدقها عقب تخرجنا عندما اختير محمود درويش عضوًا في بعثة إلى فرنسا في فترة من الزَّمن توقفت البعثات فيها تمامًا. وانقطعت أخباره عني أعوامًا طوالًا حتى صادفته في مكتب الأستاذ عدلي المؤذن بوزارتنا فتصافحنا وجلسنا نتبادل الحديث، بدا لي وقتها في صورة جديدة، مليئة بالحيوية والصحة والعافية، وطالعتني عيناه من خلال نظارة أنيقة أسبغت على وجهه هيئة العلماء. قال: أنا مُدرس اليوم بالكلية.
فقال عدلي المؤذن: وهو شارع في إصدار سلسلة في فلسفة التصوف.
وقال محمود درويش: أدركتني الحرب في فرنسا قبل إتمام الرسالة فسافرتُ إلى سويسرا وهناك حصلت على الدكتوراه.
ولمَّا غادرنا قال لي عدلي المؤذن ضاحكًا: عاد خواجا كما ترى ليجد في انتظاره زوجة ريفيَّة أُمِّية.
وسألته عما قيل عنه يومًا من اتصاله بإدارة الأمن العام، وخاصةً وأنَّ عدلي المؤذن كان موظفًا في ذلك الوقت بإدارة الجامعة فقال عدلي باقتضاب: كلام فارغ.
ولمَّا حكيت تلك الواقعة للأستاذ عباس فوزي ضحك طويلًا وقال: يا لك من رجل طيِّب! ألا تعلم أنَّ عدلي المؤذن نفسه كان متصلًا وقتها بإدارة الأمن العام؟
والتقيتُ — بعد ذلك بأعوام — بالدكتور محمود في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بالمنيرة، وكانت قدمه قد رسخت في عالم التأليف، وصدر له أكثر من ثلاثة كتب عُدَّت من المراجع الهامَّة في دراسة التصوف في العصر الحديث، وسمعت عنها الثناء تلو الثناء من أستاذنا ماهر عبد الكريم. ويومها سألته عن أحواله فقال: لي أربعة أبناء في كليَّات الهندسة والتجارة والحقوق والآداب وبنت متزوجة من ضابط طيار.
فسألته باهتمام: هل تُمارس التصوف؟
فأجاب ضاحكًا: كلا، ولكن لا مراء في أنَّ الإنسان لا يتخصص إلا في مادة متغلغلة في نفسه.
وفَكَّرْتُ في زوجته التي اختارتها الظروف ربة لبيت من المثقفين وهي بدائية بكل معنى الكلمة، فوددت لو أتسلل إلى أعماق ذلك الجانب من حياته، ولكنه كان يبدو متألقًا بالسعادة والنَّجاح. وقال لي: طبعًا علمت بمأساة الدكتور إبراهيم عقل؟
– طبعًا، كارثة ولا شك، ولكني لم أرك في جنازة ابنيه؟
– كنت خارج القاهرة، هل حافظت على اتصالك به مذ تركت الكلية؟
– كلا.
– إنه أستاذ بلا تلاميذ ولا مريدين.
والتقيتُ به مرة أخرى في صالون المنيرة، ثم دُعي للتدريس في إحدى الجامعات العربية فسافر خارج القطر وانقطعت عني أخباره.