بَدْر الزيَادي
كان زميلًا بالمدرسة الثانوية، وكان بدينًا خفيف الروح، يحبُّ الطعام واللعب والبنات ويحب الوطن، وكان أبوه ضابط المدرسة، عاصرناه عامين، ثم اتُّهم في ظروف لا أذكرها بالعيب في الذات الملكيَّة فقُدِّم إلى المحاكمة التي أدانته وحكمت عليه بالحبس ستة أشهر مع وقف التنفيذ، ولكنه فُصل من وظيفته، وكان بدر يُفاخر بشجاعة أبيه ووطنيته فجاريناه في ذلك؛ إذ كان العيب في الذات الملكية يُعَد درجة لا بأس بها من درجات الجهاد يضمن لصاحبه موضعًا في صفحة المجاهدين، وكان بدر تلميذًا عاديًّا في الفصل، بل خاملًا، أمَّا مجده الحقيقي فكان يتألق في فناء المدرسة. في فناء المدرسة كان قُطبًا ينجذب إليه بعض تلاميذ فصله، وتلاميذ من الفصول الأخرى، وعندما يجد نفسه محورًا تتحرك مواهبه ويجيش صدره بالعطاء، فيلقي بعض الأزجال الوطنية، ويحكي النَّوادر اللطيفة، أو يتصدَّى لتحديات غريبة، سألَنا مرة عن أوفق الأماكن لممارسة الحب، فأجاب كلٌّ بما خطر له، ولكنه جعل يهز رأسه ساخرًا حتى نضب معين خواطرنا، ثم أجاب هو قائلًا: القرافة!
ودهشنا، وضحكنا مما ظنناه مزاحًا فعاد يقول: في المواسم يبيت الناس في أحواش المقابر، نساءً ورجالًا، والنِّساء يكنَّ عادةً أضعاف أضعاف الرِّجال، وفي ظلام الليل تسنح فرص لا تخطر على بال.
فقال بعضنا: ولكنها مناسبة لا تفتح النفس للحب!
فقال بيقين: الحُبُّ لا يتخيَّر مناسبة فهو صالح لكل مناسبة!
وقصَّ علينا كيف انقضَّ على خادمة في مكان خالٍ من البيت، وجثة عمته مسجَّاة تنتظر من يُكفِّنها، والنائحات ينحن في ساحة البيت، وفي ذاك المجال كانت له حكايات غريبة لا تنفد، أمَّا امتيازه الحق فقد ناله بكل جدارة في كرة القدم، كان قلب الهجوم في فريق المدرسة، ورغم بدانته اشتهر بالسُّرعة وخفة الحَرَكة غير أنَّ اندفاعه المتناقض مع وزنه كان يُثير في الملعب عاصفة من الضحك، وعُرف بقدرته الخارقة في المحاورة والمُداورة، والسيطرة على الكرة كأنما يشدُّها إلى مجال قدميه بقوة مغناطيسية، والمكر الأريب الذي يُفقد أعداءه توازنهم ويطرحهم أرضًا، كما امتاز بقوة ضرباته للكرة.
وكان يُعِد نفسه للعب في النوادي، ويحلم بالاشتراك في الأوليمبيات العالمية، وكان مستر سمبسون المدرِّب العام بوزارة المعارف يُعجب به، فنصحه في ختام إحدى المباريات العامة بين المدارس بتخفيف وزنه، فكانت استجابته للنصيحة أن الْتَهَم — في حفل الشاي الذي أعقب المباراة — طورطة كاملة وحده مع عديد من السندوتشات والفطائر!
وذات صباح وقف بدر الزيادي يهتف — مع الهاتفين — بحياة دستور ١٩٢٣ وسقوط الدكتاتورية.
كان الملك فؤاد قد أقالَ مصطفى النَّحاس، وعهدَ بالوزارة إلى محمد محمود، فأعلن هذا تأجيل العمل بالدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وأضربت المدارس جميعًا، ومنها مدرستنا، غير أنَّ قوَّات الشرطة حاصرتنا فلم نتمكن من الخروج، ولكي نتسلَّح بما يلزمنا في المعركة اقتلعنا الأشجار، والنوافذ، والأبواب، واقتحمنا المطعم فاستولينا على الأطباق والحلل والمغارف والشوك والسكاكين. وتصاعدت هتافاتنا العدائية مقتحمة كل مقام حتى مقام الملك. وعند ذاك هجم الجنود فجأة ومن جميع الأبواب وانهالوا علينا بالعصي الطويلة على حين أطلق الكونستبلات الإنجليز الرصاص في الهواء على سبيل الإرهاب. ودارت معركة غير متكافئة، ولم ينجُ واحد منَّا من ضربة أو أكثر، وسقط جرحى كثيرون، واستُشهد فرَّاش وتلميذ. كان بدر الزيادي هو التلميذ الشهيد إذ قضت عليه ضربة أصابت مؤخر رأسه. وصمَّمت المدرسة على تشييع جنازته في اليوم التالي، ولكن الشرطة ضربت حصارًا حول قصر العيني الذي كان عامرًا بالشهداء من جميع المدارس. وحُملت الجثث رأسًا من المستشفى إلى المدافن تحت حراسة الشرطة، ولكننا ذهبنا فرادى إلى بيت ضابط مدرستنا القديم لنُقدِّم له واجب العزاء. وما زال الرجل حيًّا حتى اليوم ولعلَّه في الخامسة والسبعين من عمره. أراه نادرًا في بعض زياراتي للعباسية، وهو جالس في مقهى صغير قريب من مسكنه، مهدَّمًا بالكبر وضيق ذات اليد فيما يبدو، لا يتصور من يراه أنَّه كان من ذوي العقائد الحرة أو أنه جابه الحياة بشجاعة، وأنه فقد في سبيل ذلك وظيفته وابنه. ومن مكانه المنزوي يُراقب السيارات المنطلقة حاملة النَّاجحين من رجال المجتمع المعتزين بإقبال الحياة الذين لم يكتووا بنار تضحياتها وقيمها السامية. تُرى ماذا يدور بخلده وهو يتابع هذا التيار الغريب المتدفق؟ أم إن الكِبَر والزَّمن قد أعفياه من كل شيء إلا ما يُعانيه في لحظته العابرة!
أمَّا بدر فما زالت الصورة التذكارية لفريق كرة القدم تجمعنا، وهو يتوسط الفريق، الكرة بين قدميه، يُطالع الكاميرا بنبرة مرحة مُتْرعة بالثقة بالنفس.