ناجي مرقص
لا أنسى هذا الاسم أبدًا، لم يُمحَ من ذاكرتي كأنه اسم عَلَم من الأعلام، رغم أنني لم أُزامله إلا ثلاثة أعوام من حياتي، ما بين ١٩٢٥ و١٩٢٨ في المدرسة الثانوية. أمضى فترة الدراسة الابتدائيَّة في السودان حيث كان يعمل والده، ولما عاد الرجل إلى مصر أقام في العباسيَّة وألحق ابنه بمدرستنا، وقال ناجي لي يومًا: كنا إخوة أربعة، مات ثلاثة، وبقيتُ أنا.
وقال لي مرة أخرى: أمِّي حزينة لا تضحك أبدًا.
وكان رشيقًا طويلًا وسيم الوجه لطيفًا مهذبًا ورزينًا لدرجة لا تناسب سنه، ولعله كان الوحيد في سنة أولى الذي يَلْبَسُ بنطلونًا طويلًا، ورُبَّما كان أنبغ تلميذ صادفته في حياتي. كان لكلِّ تلميذ مجال في تفوقه إن وُجد، فتلميذ يتفوق في اللغات وآخر يتفوق في الرياضيات وهكذا، أمَّا ناجي مرقص فكان متفوقًا في جميع المواد، في العربية والإنجليزية والفرنسية والحساب والجبر والهندسة والطبيعة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا، وكان الأوَّل دون نزاع، وكان المدرسون على اختلاف جنسيَّاتهم من مصريين وإنجليز وفرنسيين يحترمونه ويُعاملونه كأنه رجل لا تلميذ، وكان بدر الزيادي يُسميه عبد الحليم المصري تشبيهًا لتفوقه بقوَّة المصارع الشهير. وسألته يومًا: كيف تفوَّقت في جميع المواد؟
فأجاب بأدبه الجم: أنتبه في الفصل وأُذاكر من أول يوم في السنة الدراسية.
وسأله جعفر خليل: ألا تذهب إلى السينما كل خميس؟
– في الأعياد والمواسم فقط.
فسأله عيد منصور: ألا تلعب الكرة؟
– كلا.
فسأله رضا حمادة: أليس لك هواية؟
فأجاب: أعزف على البيانو في أوقات الفراغ.
فقال له رضا: إنك لا تشترك في الإضرابات أفلا تهتم بالوطنية؟
– أهتم بها طبعًا ولكن …
وتردَّد لحظات ثم قال: ولكنَّ أخي الأكبر قُتل في مظاهرة!
ونجح في امتحان الكفاءة بتفوَّق فجاء ترتيبه بين العشرة الأوائل في القطر كله، وعندما عدنا إلى المدرسة في بدء العام الدراسي الجديد لم نعثر لناجي مرقص على أثر لا في القسم العلمي ولا القسم الأدبي.
وتساءلنا عن سر اختفائه دون أن نظفر بجواب. وكان يسكن بعيدًا عن حينا في أطراف العباسيَّة المشرفة على منشية البكري، فذهبنا إلى مسكنه نستطلع فعلمنا هناك بأنَّه أُصيب في صدره، وأنه أُرسل إلى جدته بصعيد مصر ليُعالج، وأن علاجه سيستغرق عامًا كاملًا في أقل تقدير. أحزننا الخبر كما أحزن جميع أقرانه ومدرسيه، وأرسلنا إليه رسالة جماعية حمَّلناها تحياتنا وتمنياتنا له بالشفاء العاجل. وحدث في ذلك الوقت أن قُدِّم مصطفى النحاس إلى المحاكمة في قضية سيف الدين فبرَّأته المحكمة العليا، وذهبت وفود من الشعب إلى بيت الأمة تهنئه، وذهب فيمن ذهب والد صديقنا وهو موظف في وزارة الحربية، وظهرت صورته لسوء الحظ ضمن صور المهنئين فقررت الوزارة فصله. وشق على الرجل الرَّفت، وكان فقيرًا كما كان مريضًا بالقلب فأُصيب بالفالج وقضى نحبه. وشفي ناجي من مرضه ولكنَّه عجز عن مواصلة التعليم فانتهز أهل الخير فرصة عودة الوفد إلى الحكم وسعوا إلى تعيين الشاب الصغيرة في وزارة الحربية، فتعين في وظيفة صغيرة خارج الهيئة، كذلك قضت الظروف على أنبغ تلميذ في جيلنا. وكثيرًا ما كنتُ أتذكره وأتحسر على نهايته، وكلما صادفني شيء من التوفيق في حياتي الدراسية أو العملية تذكرته فداخلني الأسى وتخيلت الأمجاد التي وئدت بضربة عمياء من ضربات العبث، ومضت أعوام فأعوام دون أن تقع عليه عيناي أو أسمع عنه ذكرًا حتى التقيت به مصادفة في كازينو حديقة الأزبكية عام ١٩٦٠. مررت به أوَّل الأمر دون أن أفطن إلى هويته إذ جذبت عيني لحيته البيضاء فحسبته فنانًا، ثم سمعت صوته يناديني فالتفت إلى وجهه وعرفته في الحال، وتصافحنا بحرارة ثمَّ جلسنا حول مائدة متواجهين، لم يكد يتغير وجهه لولا لحيته وشيبة رأسه، وانبعثت من جملة منظره شفافية عذبة كالعبير الحلو أو الطمأنينة الشاملة، وتذاكرنا الماضي والزملاء، من رحلوا مثل بدر الزيادي وجعفر خليل، ومن نبغوا في الحياة مثل رضا حمادة وسرور عبد الباقي وغيرهما، ثم جاء دوره فقال: ما زلت موظفًا بوزارة الدفاع، ووصلت إلى الدرجة الثالثة، متزوج وأب لفتاة في العشرين طالبة بكلية العلوم.
وسكت قليلًا ثم استطرد: اتجهت من قديم إلى دراسة الروحانيَّات، عن طريق الكتب والمراسلة.
فقلت له: قرأت بعض الكتب عنها.
فابتسم قائلًا: إني أدرسها وأمارسها!
– حقًّا؟!
فقال بوجد وحماس: عالَم الروح عالَم عجيبٌ، أعجب من عالَم المادة.
فتابعته باهتمام واحترام فاستطرد: وهو أمل الإنسان في الخلاص الحقيقي.
فقلتُ مجاملًا وصادقًا في آنٍ: الإنسان في حاجة إلى الخلاص.
فقال بحرارة متشجعًا بإقبالي: حضارتنا مادية، وهي تحقق بالعِلم — كل يوم — انتصارات مذهلة وتمهد لسيطرة الإنسان على دنياه، ولكن ما جدوى أن تملك الدنيا وتفقد نفسك؟
فقلت بحذر: على الإنسان أن يملك الاثنين!
فابتسم بعذوبة وقال: لعلَّك لا تؤمن بقولي، أو لعلك لا تؤمن به كل الإيمان، ولكن ثق من أنَّ عالم الرُّوح حافل بالمجاهل كعالم المادة، وأنَّ التنقيب فيه يَعِدُ الإنسان بانتصارات مُذهلة لا تقلُّ عن انتصاراته في غزو الفضاء، وأنَّه لا ينقصنا إلا أن نُؤمن بمنهج روحي كما نؤمن بالمنهج العلمي، وأن نؤمن أيضًا بأنَّ الحقيقة الكاملة هي ملتقى طريقين لا غاية طريق واحد.
– حكمة معقولة.
فرنا إليَّ بنظرة حنون من عينيه السوداوين — أدركتُ لونهما لأول مرة — وقال برثاء وشفافية: ما أضعف صوت الحق وسط هدير الآلات، ولكن ما أحوج الإنسانية اليوم إلى منقذ.
فسألته بحب استطلاع: كيف تتصور المنقذ؟
– أتصوره رجلًا أو فكرةً أو درسًا باهظ الثمن!
– كحرب ذريَّة؟
– ربما، على أي حال أشعر بأنَّ ثمة حجابًا يفصل بيني وبينك، ولكنه حجاب شفاف ضعيف الجذور، وأنَّ استعدادك لحب الحقيقة كبير؛ وإني أمارس تحضير الأرواح في بيتي فلعلك تزورني يومًا.
وأعطاني بطاقته التي لم يطبع عليها إلا الاسم والوظيفة والعنوان بشارع دير الملاك. ومع أنني تلقيتُ كلماته بحب لا باقتناع إلا أنه خطر في جحيم حياتي كعبير زهر اللارنج. وفي مساء اليوم نفسه قابلت الأستاذ سالم جبر في مكتبه بالجريدة، وحدثته عن ناجي مرقص ودعوته، وبإغراء وتحدٍّ معًا عرضت عليه أن نزوره معًا، ولكنه استسخف الفكرة، وذكَّرني بأنه لم يعُد يوجد فاصل بين عالمي المادة والروح، وأن التوغل في حقيقة المادة هو توغل في حقيقة الروح، وأنَّ صديقك يدعوك إلى طقوس سحرية في عصر الفضاء! ولم أرَ ناجي مرقص بعد ذلك ولكنه يهفو على قلبي أحيانًا كذكريات الصبا فأدرك أنه يعيش في ركن من نفسي.