هجار المنياوي
كان الشيخ هجار المنياوي مدرِّس اللغة العربية في مدرستنا الابتدائية، ولحق بنا في المدرسة الثانوية، وكان من أهل الصعيد، ينطق بلهجتهم، قويَّ البنيان طويل القامة غامق السُّمرة، قليل العناية بمظهره، فعِمَّته أصغر مما ينبغي ولا ذوق له في اختيار ألوان الجبَّة والقفطان، ولكنه كان يفرض الاحترام بقوة شخصيته والتمكن من مادته وشجاعته الفائقة، ولم يكن متزمتًا، كان يحب النكتة، ويروي لنا جميل الأشعار، ومرة تبارى في فناء المدرسة مع مدرسي الرياضة البدنية في التحطيب، فلعب بعصاه برشاقة أذهلتنا وانتصر على خصمه وسط تصفيق حادٍّ، ومرة دخل جعفر خليل الفصل متأخرًا بعد أن انتظمنا في مجالسنا، وكعادته في حب المزاح، قلَّد أستاذنا فقال له: عم صباحًا.
وضحك الفصل وانبسط جعفر، وتركه الشيخ هجار حتى جلس، ثم ناداه: جعفر خليل.
فوقف فقال له بهدوء: أعرب «عم صباحًا».
وعجز جعفر عن إعرابها ففتح الشيخ دفتر يومية التلاميذ وأعطاه صفرًا، فاحتج جعفر قائلًا: إنَّها صعبة!
فقال الشيخ بهدوء: ولِمَ تستعمل ما لا تفهمه؟
أمَّا جانبه الجاد فكان فذًّا لا يتكرر، كان في المدرسة الابتدائية — عصر الثورة — مُدرسًا للغة العربية والوطنية. فلدى أي مناسبة يفتح باب الحديث الوطني، يستعيد الذكريات المجيدة، ويشيد بالأبطال، ونحن نتابعه والدموع في أعيننا. وكان يُحدث عن سعد زغلول وكأنه ولي من أولياء الله أو صاحب معجزات، معتبرًا زعامته رسالة سماوية ومعجزة تاريخية، ومنه عرفنا ما لم نكن نعرف عن نشأة سعد، ومهارته في المحاماة، ومواقفه في نظارة المعارف ونظارة الحقانية، وزعامته، وتحديه لقوة الإنجليز، وسحره وبلاغته، وما ينتظر البلاد على يديه، وكان يقول: ببلاغته عبَّأ الشعور، وباسمه قامت الثورة.
وكان يعرف التلميذ الكامل فيقول: هو مَن يحصِّل العلم ويثور على الطغاة.
وكنا نحبه بقدر ما نجله، ونتلقى عنه الوطنية والأصالة، وبفضله أحببنا اللغة العربية وعشقنا أشعارها.
وفي المدرسة الثانوية تغيَّر مذاق الجهاد، فتوارت عنا وجوه الإنجليز وبرزت في الصورة وجوه المصريين الموالين لهم واحتلت الحزبية المكان الأول في الصراع، وخاض الشيخ المعركة الجديدة بنفس القوة والصلابة، وكان يقول: المعركة هي المعركة، ولكن الأعداء ازدادوا عددًا فوجب علينا مضاعفة الجهاد.
ويوم أضربنا على عهد محمد محمود، اليوم الذي استُشهد فيه بدر الزيادي، أخرجه ناظر المدرسة فطالبه بأن يخطب التلاميذ حاثًّا إياهم على الانتظام في الدراسة، وكان في طبعه حدة تثور على التحدي وتنفجر غضبًا أعمى، فاعتلى المنصة أمام حجرة الناظر وصاح بصوت رهيب: العِلْم يطالبكم بالنظام والوطن يطالبكم بالجهاد وليس لكم إلا ضمائركم فارجعوا إليها.
وكتب الناظر تقريرًا عنه فرفعه إلى وزير المعارف، وسرعان ما تقرر فصله، ويوم غاب عن المدرسة وانتشر الخبر هاجم الطلبة حجرة الناظر حتى اضطر إلى الفرار من المدرسة، واضطرت الوزارة إلى نقله حماية لحياته، وقد عاد الشيخ إلى المدرسة في عهد الوفد، ولكنه فُصل مرة أخرى في عهد صدقي، فعمل في مدرسة بين الجناين الأهلية التي كان يملكها رجل وفدي معروف. وفي حكومة المعاهدة تعيَّن مفتشًا بالوزارة وسُوِّيت حالته تسوية عادلة، وفي انتخابات ١٩٤٢ رشَّح نفسه على مبادئ الوفد فنجح، كما نجح مرة أخرى عام ١٩٥٠، وقد التقيت به مرات في بيت رضا حمادة كما عرفت بعض أبنائه. ولمَّا صدر قرار حل الأحزاب — بعد ثورة يوليو — رجع إلى قريته في الصعيد فلم يبرحها، ولا أدري إن كان ما زال على قيد الحياة أم انتقل إلى جوار ربه. ومما يُذكر أنَّه في سبتمبر عام ١٩٥٢ أو ١٩٥٣ وكنت مارًّا أمام نادي الجيش القديم بالشاطبي، رأيتُ بعض أعضاء الوفد واقفين في فناء النادي يحيط بهم جند، وسمعتُ من بعض المارَّة بأنهم اعتُقلوا وسيُرحَّلون إلى القاهرة، ورأيت بين الضباط الذين يُشرفون على الإجراءات الضابط محمد هجار ابن شيخنا القديم هجار المنياوي. تأملت الموقف، نظرت طويلًا إلى الابن، تذكَّرت الأب، ثم خُيِّل إليَّ أني أسمع هدير الزمن وهو يتدفق حاملًا متناقضاته المتلاطمة.