وداد رُشدي
رأيت وداد رشدي لأوَّل مرة عندما جاءت لزيارة كاميليا زهران بإدارة السكرتارية يومًا من أيام ١٩٦٥، وكانت عملاقة، تمتد طولًا وعرضًا، ولكنها رشيقة بالنسبة لحجمها، وقسماتها كانت كبيرة في ذاتها، ولكنها مقبولة وجميلة في موضعها من الجسم المترامي، وبصفة عامة يوحي منظرها بالقوة والجمال والطلاقة كتمثال، وتؤثر نظرة عينيها العسليتين بجرأتها غير العاديَّة، هذا إلى جاذبيَّة جنسية نفَّاذة كالعطر الفوَّاح. وكلما اختلست منها نظرة وجدتها تنظر إليَّ حتى ثارت تساؤلاتي. قدرت عمرها بالثلاثين، ومن ملاحظة يسراها عرفت أنها متزوجة، وجعلت أتساءل عما يدعوها إلى ملاحقتي بنظراتها، وكانت علاقتي بأماني محمد ما زالت في عنفوانها، وخُيِّل إليَّ أني عرفت السبب عندما أقبلت هي وكاميليا نحو مكتبي، جلستا على كرسيين متقابلين أمام المكتب، وقالت كاميليا: لا مؤاخذة يا أستاذ نريد استطلاع رأيك في مسألة؟
فسلَّمت وأنا أقول: تحت أمركما.
فقالت كاميليا: صديقتي وداد رشدي، ستُحدِّثك بنفسها.
وقالت وداد بصوت ناعم واضح ذي درجة عالية تناسب حجمها: المسألة بكل بساطة أني حصلت على ليسانس الحقوق منذ خمسة أعوام، لكني تزوجت ولم أتوظف، وزوجي الآن مُعار في الكويت لمدة عام، وأُفكِّر في التوظف، فهل يمكن إتمام ذلك عن طريق إدارة القوى العاملة؟
فقلت: كلا، ولكن جربي حظك بطلب خاص أو بالاشتراك في أي مسابقة يُعلن عنها.
– واضح أنَّ الأمل في تلك الحالة ضعيف.
– لا أقول إنَّه قوي، ولكن عليكِ أن تُجربي.
وقالت كاميليا زهران: إنها أم لطفلتين ومع ذلك تريد أن تتوظف.
فقالت وداد: جميع زميلاتي متزوجات وموظفات!
فسألتها: وماذا عن الطفلتين؟
– لن ألقى المتاعب من هذه الناحية.
– وماذا عن زوجك؟
– موافق.
وقالت كاميليا: ساعدْها بما تستطيعه.
وزكَّت وداد نفسها قائلة: نحن جيران من الزمن القديم!
فتساءلتُ بدهشة: حقًّا؟
– لا تذكر لأني كنتُ صغيرة، ذلك تاريخ يرجع إلى عشرين عامًا، وكنت في العاشرة، ثم غادرنا حيكم منذ خمسة عشر عامًا وأنا في الخامسة عشرة.
– ذلك تاريخ قديم ولكن ليس جدًّا فكيف لا أذكرك؟
– أما أنا فأذكرك كما أذكر رضا حمادة وسرور عبد الباقي وجعفر خليل الله يرحمه، وسرور عبد الباقي اليوم هو دكتورنا المُفضل، وما زلت أذكر وفاة جعفر خليل الغريبة.
فقلت بحنان: يا لها من ذكريات!
وتساءلت كاميليا بمكر: أرأيت؟!
وبعد مرور أسبوع على المقابلة تلفنت إليَّ بخصوص الوظيفة أيضًا، ولكني شعرت أنها لم تكن إلا مماحكة للمحاورة. وعجبت ماذا تريد العملاقة الجميلة المتزوجة؟ وجعلت أقارن بينها وبين أماني محمد، بل بينها وبين درية، واستثار الوجد فدعا من غيابات الماضي حنان مصطفى وصفاء الكاتب، وسألتها: ألن تزوري كاميليا مرة أخرى؟
فسألتني بصراحة: أتريد أن تراني؟
فلم أجد مفرًّا من أن أقول: يسعدني ذلك.
فسألتني بتحدٍّ: ولماذا يسعدك؟
فانزلقت إلى القول: مرآكِ يسعد الأنفس.
فضحكت وقالت: الإدارة عندكم مُزدحمة وتفوح برائحة الأوراق.
فارتضيت الهاوية دون تقدير للعواقب وقلتُ: إذن ليكن في مكان هادئ.
– أتحب الأماكن الهادئة؟
– جدًّا.
– بشرط!
– أفندم؟
– أن تجيء بنِية طيبة.
– طبعًا.
– تذكَّر ذلك.
– وعد.
– فما أهدأ مكان في نظرك؟
– حديقة الأسماك.
ووجدتها تنتظر بلا ارتباك ولا حياء، بلا ارتباك ولا حياء كأنما تنتظر زوجها أو أخاها، وسرنا معًا في شبه خلاء، حتى اخترنا مجلسًا تحت سفح الهضبة، وقالت: لعلك تُسائل نفسك عن سر المرأة الجريئة التي رمت بنفسها في طريقك بلا سياسة ولا لباقة؟
فقلتُ بسرور والرغبات تراقصني: ما دمت سعيدًا فلا معنى للتساؤل.
فقالت ضاحكة: لا تنسَ شَرطي!
– أنا متذكِّره.
فقالت بجدية: يجب أن تعرف أنني امرأة محترمة وزوجة مخلصة.
فقلت وأنا أستشعر شيئًا من القلق: لا جدال في ذلك فعيني بصيرة، وسن الطيش ودعتها من قبل أن تفارقي حينا!
– تكلم عن ذلك العهد باحترام وعاطفة من فضلك.
– له الاحترام والحب إلى الأبد.
فابتسمت بجرأة لم أعرفها من قبل وقالت: لم أقابلك مصادفة.
– حقًّا؟
– كاميليا حدثتني عن زملائها، وعندما سمعتُ اسمك .. ماذا أقول؟ قررتُ أن أقابلك.
– ولكنك ترغبين في التوظف.
– لا أهميَّة لذلك.
– لا تتركيني فريسة للحيرة.
وهي تضحك في سعادة ناطقة: أنا أعرفك منذ عشرين سنة!
– أجل.
– كنت من سكان العمارة الخضراء، تذكرها؟
– أمام السبيل بالشارع العمومي!
فقالت بعتاب: ولكني كنت في العاشرة فلم تنتبه إليَّ.
– كنا نمر تحت العمارة ولا موقف لنا تحتها وسن العاشرة …
– وسن العاشرة لا يستلفت النظر، ولكني بلغتُ الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة ولم تنتبه.
– سوء الحظ إذا استحكم.
– كنتُ وقتذاك أعتبر سوء الحظ من نصيبي أنا.
نظرت إليها في حرج فطالعتني بنظرة صريحة جريئة ضاحكة، وقالت: فعلت المستحيل لألفت نظرك ولكني لم أفلح.
– يا لها من ذكريات كالأساطير!
– ولكنها حقيقية، وهي تعيش في أعماقي كخيبة لا دواء لها.
فقلت بارتباك: لعلك تبالغين.
– أبدًا، كل كلام الدنيا لا شيء بالقياس إلى حقيقة ذلك الماضي.
وكنتُ أصغي بارتياح وافتتان وبلا عاطفة، وبصراحتها العملاقة سألتني: أحق ما يُقال عن الحب الأوَّل من أنه لا يفنى أبدًا؟
وتذكَّرت في الحال حنان، وصفاء، ورجعت إلى قلبي الخامد، ثم قلت: لا يخلو قول مأثور من حقيقة خالدة!
فقالت بحرارة: إنَّه عاطفة ساحرة لا تتكرر ولذلك لا يمكن أن يُنسى.
– وما فائدة ذلك؟
– لا فائدة.
– ولكنك زوجة سعيدة.
فقالت بأسى: أجل، لا أحبُّ أن أكون جاحدة، ولكن العين تثبت على ما ينقصها.
– لذلك فالسعادة حكمة عسيرة.
– زوجي رجل كامل، إنه مثال تتمناه أي امرأة، ولكنه لا يُشاركني ميولي الخيالية، أشعر أحيانًا بالوحدة، وتعضني أحيانًا خيبتي القديمة!
وضحكتْ ثم استدركتْ: عندي تخمة من السعادة، ولكن روحي ظمأى!
فسألتها: ما عمر زوجك!
– أربعون عامًا!
– أنت في جنة ولا يجوز لك أن تحلمي!
فقطبت قليلًا ثم قالت: أنت كبرت، وأراهن أنك لم تعرف الحب!
ترى أين صفاء؟ أما زالت على قيد الحياة؟ وهل يمكن — لو صادفتها — أن يجري بيننا مثل هذا الحديث؟! وتراجعت قائلة: لا مؤاخذة، صراحتي تخرجني أحيانًا عن حدود اللياقة، ولكني توقعت أن تحترم عواطفي.
فقلت بحرارة: إني أحترمها من أعماق قلبي.
فقالتْ بتأثر وامتنان: أشكرك.
ثم واصلت: أرجو ألا ينقطع الاتصال بيننا، أيُضايقك ذلك؟
– سأسعد به فوق ما تتصورين!
– اتصال روحيٌّ لن يمس احترامنا لأنفسنا.
– اقتراح عذب أقبله على العين والرأس.
– وليكن التليفون وسيلتنا حتى لا نتعرض لظلم لا نستحقه.
– كما تشائين.
– إلا إذا غلبني شوق فسنتقابل خطفًا.
– ما أجمل أن نتقابل ولو خطفًا!
ومنذ ذلك اللقاء فتحت لي حياة جديدة أبوابها فدخلتها مدفوعًا بالحنان والتعلق بالذكريات وحب الاستطلاع، وعايشت روابطها العائلية ومشكلاتها اليومية، وما تزخر به من أبوَّة وأمومة وبنوة، وارتباطات عاطفية بل وجنسيَّة، وخلافات ومسرات وأمراض وأحلام وأهواء من كل شكل ولون.
وداد بُعد من أبعاد حياتي لا يدري به أحد، ولكنه جزء من كينونتي لا يتجزأ.