يسرية بَشير
يرجعني الاسم إلى مهد الطفولة، ميدان بيت القاضي وأشجار البلح المثقلة بأعشاش العصافير، ومن نافذة جانبية كنتُ أطل وأنا طفل على حارة قرمز، وهي حارة مبلَّطة تنحدر في هبوط، وعند منعطف منها يقوم بيت آل بشير. كنت في السابعة أو الثامنة، وكان يعجبني منظر الشيخ بشير وهو يجلس أمام مدخل بيته في العصاري يُسبِّح، يضيء المكان ببشرته البيضاء، ولحيته الشيباء، والألوان الزاهية التي تعرضها عمامته وجبَّته وقفطانه، وعندما يمضي إلى ميدان بيت القاضي في طريقه إلى الكلوب المصري تظهر في النافذة يسرية، لعلها كانت في السادسة عشرة أو نحو ذلك، يتجلى منها وجه كالقمر، أبيض بهيج مريح مضيء يُتوِّجه شعر فاحم، وتناديني بصوت ناعم، وتمازحني، وأنا أتطلَّع إليها سعيدًا راضيًا وعاشقًا إن جاز لابن سبع أن يعشق. والحق لا يمكن تفسير تعلقي بها إلا بالعشق، فما كانت قريبة ولا من سني، ولا أهدتني يومًا لعبة أو قطعة من الحلوى، ولا تحدَّثت بجمال وجهها. وكانت تُغريني أحيانًا بالذهاب إليها فأتسلل من البيت إلى الحارة، ولكن الخادمة كانت تدركني في اللحظة المناسبة، وتحملني إلى البيت، وأنا أبكي وأرفس دون جدوى، ويومًا أمطرت السماء، ووقفت في النافذة أرقب المطر وهو ينهمر فوق أديم الحارة ويجري نهرًا ليصب في القبو القديم، وما لبث أن ارتفع مستوى الماء حتى غطى وجه الأرض، وانقلبت قرمز جدولًا راكدًا يستحيل عبوره إلا بالحمَّالين أو بالكارو، ومن خلال الأمطار المنهمرة رأيت يسرية واقفة أيضًا في النافذة وهي تشير إليَّ فخطرت لي فكرة قررت في الحال تنفيذها، فصعدتُ سرًّا إلى السطح وحملت طست غسيل نحاسيًّا ومقشة ذات يد خشبية طويلة ومضيت بها إلى الطريق، ثم أرسيت الطست فوق سطح الماء ووثبت إليه وجعلت أدفعه بالمقشة فيسبح نحو بيت بشير، وانتبهت الخادمة ولكن بعد فوات الأوان، لم تستطع تلك المرة أن تخوض الماء إليَّ فوقفت عند ناصية الحارة تنادي ولا مجيب. وغادرت الطست عند باب آل بشير المثبت فوقه تمساح محنَّط، ومرقت إلى الداخل حافيًا مُتشبِّع الجلباب بالماء، وقابلتي يسرية عند رأس السلم فقادتني إلى الحجرة، وأجلستني قبالتها على كنبة تركية، وراحت تداعب شعري برقة وأنا غارس عيني في وجهها المضيء، ولا شك أنني رغم الجهد والبلل شعرت بالظفر والسعادة بين يديها. وأرادت أن تُسليني فتناولت راحتي وبسطتها وهي تقول: سأقرأ لك الطالع!
وراحت تتابع خطوط كفي وتقرأ الغيب ولكنَّني استغرقت بكل وعيي في وجهها الجميل.