بلال عَبده البسيُوني
التقيتُ به مُصَادَفَة في فيلا جاد أبو العلا في أوائل عام ١٩٧٠، ورغم أنَّنَا لم نتصادق، بل ولم نلتقِ مرة أخرى إلا أنَّه ترك في نفسي أثرًا يَسْتحق أن يُذكر، ولما ذهبت إلى الفيلا ذلك المساء لم يكن ببهو الاستقبال إلا الأستاذ جاد أبو العلا، وزميلي القديم عبده البسيوني، وشابٌّ وسيمٌ به شَبه منه سرعان ما قدَّمه لي قائلًا: ابني .. الدكتور بلال.
وفي الحال تذكَّرتُ قصة الابن والابنة اللذين كانا محور حديث ذي شجون بين عبده وبيني، ثم بيني وبين أماني محمد منذ سنوات خمس، واشتركت في حديث مما يجري بلا هدف وقد عاودني شعور بالذنب القديم، وإذا بعبده البسيوني يقول مشيرًا إلى ابنه: الدكتور يُفكِّر في الهجرة!
واسترعى قوله اهتمامي فنظرت إلى الشاب من جديد بحب استطلاع آسر، إنَّ كلمة «الهجرة» من الكلمات الجديدة التي غزت قاموس حياتنا، وأثارت في جيلنا القديم العجب، ها هو واحد من فرسانها فما أطيب الفرصة!
وعاد عبده يقول: إنه مُرشَّح لبعثة دراسيَّة قصيرة بالولايات المُتحدة، ولكنَّه يضمر الهجرة.
فسأله جاد أبو العلا: وما رأيك أنت؟
فأجاب عبده ضاحكًا: وما قيمة رأيي أو رغبتي؟
– على سبيل العلم بالشيء؟
– لا أوافق.
– وأماني هانم؟
ضاعف من ارتباكي الخفي ذِكر الاسم، ولكني عرفتُ لأول مرة أنها رجعت إلى أسرتها، كما أدهشني أن يتحدث جاد عنها بتلك الألفة، أمَّا عبده فأجاب: إنها تُرحِّب بالفكرة وتتخيَّل أنه سيكون بوسعها أن تُسافر إلى الولايات المُتحدة كلما شاءت.
فضحك مضيفنا وجَارَيْتُهُ في ضَحِكِهِ، ثم قال مُخاطبًا الشاب: ينتظرك هنا مستقبل باهر.
فقال الدكتور بلال: إني أتطلَّع إلى بيئة علميَّة صحية.
فقال عبده البسيوني: إن هجرة صديق له يدعى الدكتور يسري أدارت عقله، ولكنه في اعتقادي شخص شاذٌّ لا يَصْلُح مثلًا طيبًا، كان طبيبًا ناجحًا سواء في المستشفى أم في العيادة، ولكنَّ غضبه على كل شيء لم يكن يهدأ لحظة واحدة، ولم يكن يكف عن النقد المر، كان يفور بكراهية غريبة نحو البلد ومن فيه، فانتهز فرصة وجوده في إجازة دراسيَّة ثم قرر البقاء هناك.
فقال دكتور بلال: ونجح هناك نجاحًا فريدًا، في العمل والبحوث على السواء.
– وكان هنا ناجحًا أيضًا فما معنى الهجرة؟!
– البيئة العلمية يا أبي! وإليك قصة وكيل قسم بالمستشفى الذي أعمل به، دَرَسَ حتى حصل على درجة الدكتوراه بامتياز رائع، انتظر أي تقدير فلم يظفر منه بشيء، بل حورِب حتى لا يحتل المكان العلمي اللائق به، فما كان منه إلا أن هاجر، ولدى عَرْض بحثه في الولايات المُتَّحدة تلقى أكثر من عرض للعمل في الجامعات والمستشفيات.
لاحظت أنَّه كان يتكلم بحدة تُقارب الغضب، فقلت: قد يوجد خلل، ولكن ليس للحد الذي يدفع النَّاجحين إلى الهجرة.
فقال لي دون أن يُخَفِّف من حدته: بل الشأن في كل شيء يدعو للرثاء!
– حسنٌ أن تشعر بذلك وأن تؤمن به، ولكن من ذا الذي ينبري للإصلاح سواكم؟
– لن أشغل نفسي بهذه الأفكار.
– ولكنَّ وطنك قيمة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها؟
فقال بهدوء نسبي: وطني الأوَّل هو العِلْم!
ثم بعد تردُّد كأنما حاسب فيه نفسه: الوطن … الاشتراكية … القومية العربية … ماذا أقول؟ لا تتصورني عابثًا … كلا … ولكن ماذا بقي لنا بعد ٥ يونيو؟!
فقلتُ: مضت على النَّكسة أعوام خليقة بأن تجعل منها درسًا لا نكسة.
فقال لي عبده البسيوني: لا فائدة، إنَّه جيل لا يقتنع إلا بما في رأسه.
فقال جاد أبو العلا: لا بأس من ذلك ولكن لا يجوز أن ينسى وطنه.
فقال الدكتور بلال: لا مُنقذ لنا سوى العِلْم، لا الوطنية ولا الاشتراكية، العِلم والعِلم وحده، وهو يواجه المشكلات الحقيقية التي تعترض مسير الإنسانيَّة، أمَّا الوطنية والاشتراكية والرأسمالية فتخلق كل يوم مشكلات نابعة من أنانيتها، وضيق نظرها، وتبتكر لها من الحلول ما يُضاعف في النهاية من حصيلة المشكلات الحقيقية.
فسألته: وماذا يمنعك من أن تكون باحثًا وعالِمًا في وطنك؟
– توجد موانع وموانع، استعداد بدائي للبحث وجو خانق للفكر والعدالة والتقدير، لذلك أفكر في الهجرة، وسأكون في أمريكا أعظم فائدة لوطني مما لو بقيت فيه، فالعلم لجميع البشر، باستثناء علم الحرب والهلاك فالعلم لجميع البشر.
وسأل جاد أبو العلا عبده البسيوني: وماذا عن شقيقته؟
– ستحصل على بكالوريوس في الصيدلة في نهاية العام الدراسي وهي مُتحمسة أكثر منه للهجرة.
فضحك الرَّجل عاليًا وقال: وفتى الأحلام؟ ألم تُفكِّر في هذه المشكلة؟
– إنَّ ما نعده مشكلة يعدُّونه لعبًا.
فقال جاد أبو العلا: من المؤسف أن الفن لم يُقدم لنا بعد نموذجًا من هذا الجيل، كم أودُّ أن أسبق إلى ذلك!
فقلت له: إنه يتقدم بلحمه ودمه فوق مسرح حياتنا المسكينة!
فقال عبده البسيوني مُخاطبًا ابنه: إنكم تحلمون بالهروب والسفينة تواجه العاصفة!
شعرت بأنَّ عبده غير جادٍّ في معارضته، وأنه لا يُحسن إخفاء إعجابه بابنه، وهز الدكتور بلال منكبيه استهانة، فأيقنت أنه يُمثل موقفًا جديدًا من «الوطنية»، تلك الأمانة القديمة التي أرهق جيلنا حملها. وقال بلال ضاحكًا وقد ذكَّرتني ضحكته بأمه: الحق أني أحلم بهيئة علمية تحكم العالم لخير العالم.
فسألته: وماذا عن القيم؟ .. العلم لا يتعامل معها، وحاجة الإنسان إليها لا تقل عن حاجته إلى الحقائق.
فنظر إليَّ فيما يُشبه العجز ثم قال: يجبُ ألا يعني ذلك التمسك البَائس عديم الجدوى بقيم بالية، إنَّكم لا تتمسكون بها إلا خوف المُغامرة بالبحث عن غيرها، والعلم لا يُعطي قيمًا، ولكنه يضرب مثالًا حسنًا في الشجاعة، فعندما تهاوت الحتمية الكلاسيكية كيَّف نفسه برشاقة فوق أرض الاحتمال، وتقدم لا ينظر إلى الوراء.
فقال جاد أبو العلا: من العبث أن تناقش قومًا ليس بينك وبينهم لغة مشتركة.
فقلت وقد أخذ رأسي يحمي بالحدَّة: إنكم تودُّون الهجرة إلى الحضارة بدل أن تنمُّوها في أرضكم.
فقال مُحْتدًّا: الإنسان في الأصل كائن مُهاجر، وما الوطن إلا المكان الذي يوفر لك السعادة والازدهار، لذلك لا تُقبل على الهجرة إلا الصفوة، أما المتخلِّفون …
وتوقَّف كالمتردد فقلت: أما المتخلِّفون فيحسن التخلُّص منهم!
فباخت حدَّته وقال ضاحكًا: لو سار الازدياد السكاني على معدله الحالي، وعجزت الوسائل عن تغذيته فربما تقضي المصلحة العامة للحضارة بإفناء أجناس برمتها!
فهتف به أبوه: حسبك!
وقال جاد أبو العلا: ما أسعد إسرائيل بكم!
– فعاودت الشاب حدَّته وهو يقول: أتحدى إسرائيل أن تفعل بنا مثلما فعلناه بأنفسنا!
وقد بِتُّ ليلتي متفكِّرًا في حديث الدكتور بلال، مُستعيدًا جُمله وعباراته، متأملًا الموضوع من شتى جوانبه، حتى اقتنعت في النِّهاية بأنه لا نجاة للجنس البشري إلا بالقضاء على قوى الاستغلال التي تستخدم أسمى ما وصل إليه فِكر الإنسان في استعباد الإنسان، وخلق صراعات مُفتعلة سخيفة تستنفد خير ما فيه من إمكانيات رائعة، وذلك كخطوة أولى لجمع العالم في وحدة بشرية، تستهدف خيرها معتمدة على الحكمة والعلم، فتُعيد تربية الإنسان باعتباره مواطنًا في كون واحد، وتهيئ لجسمه السلامة ولقواه الخلَّاقة الانطلاق ليحقق ذاته ويُبدع قِيمه ويمضي بكل شجاعة نحو قلب الحقيقة الكامنة في ذلك الكون الباهر الغامض. إما ذلك وإمَّا مستقبل جعلني أشعر بالامتنان لكوني من جيل يوشك أن يختم رحلته في هذه الحياة العجيبة التي تدور بخيرها وشرها فوق فوهة بركان.
وقد التقيتُ بعبده البسيوني بعد مرور أشهر في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم فبادرته بالسؤال عن ابنه فأخبرني بأنه سافر، ثم قال: وستلحق به أخته في القريب!
ثم قال بنبرة اعترافية: أجد كثيرًا غمزًا أليمًا في قلبي، ولكن زماني علمني التسليم للمقادر.
وبعد قليل من الصمت عاد يقول: لا أُخفي عنك أني مقتنع بقرارهما، لِمَ لَم تؤهلنا دراستنا العقيمة للهجرة؟!
فقلت: العِلم لغة عالميَّة أما مهنتنا فألغاز محلية.
وأفضيت إليه بالخواطر التي اجتاحتني عقب استماعي لحديث ابنه فضحك طويلًا ثم قال: نحن الكهول مَطالبنا يسيرة، سعادتي اليومية تتحقق لدى شرب قدح من القهوة باللبن مع قطعتين من البسكوت.