ثريَّا رَأفت
رأيتُها أوَّل عهدي بالوظيفة عام ١٩٣٥، كانت تتردَّدُ على الوزارة لزيارة عمِّها فقدمني إليها فتعارفنا، وكانت طالبة بالمعهد العالي للتربية، وعلى وشك أن تعمل مُدرسة، وكانت متوسِّطة الجمال، ولكن بارعة القد والقامة، تنمُّ عيناها عن ذكاء وشخصية، ولاحَظَ الأستاذ عباس فوزي، وكيل السكرتارية إعجابي بها؛ فقال لي يومًا — عقب ذهابها مباشرةً — وهو يُوقِّع لي على بعض الأوراق: آن لك أن تفتح بيتًا وتستقر.
فأدركت أنني ضُبطت مُتلبسًا وقلت: أترى ذلك؟
– إنَّ صافي مرتبك ثمانية جنيهات وهي تكفي للزَّواج من اثنتين!
فضحكت وقلتُ مرددًا مشاعر جيلنا: ولكن هل تُحبِّذ الزَّواج من موظفة؟
فقال بتهكمه المعهود: كما قد توجد منحرفة بين ستات البيوت فقد توجد مستقيمة بين الموظفات!
فعلمتُ أنه يُحذرني بأسلوبه الملتوي، ولكنَّ سيطرة الفتاة الجنسية عليَّ كانت فوق أي تحذير فسعيت إلى توثيق علاقتي بها. وكانت — كطالبة — تتمتع بقدر من الحرية خليق بأن يُثير فيَّ سوء الظن، فضلًا عن نظرة عينيها الساخنتين الجريئة، واستجابتهما المثيرة للقلق. كان كلُّ أولئك جديرًا بأن يصدني عنها، ولكنه أغراني بها فانتظرتها في الخارج بدافع هو خليط من حُسن النية والجري وراء مغامرة. صافحتها وسرتُ إلى جانبها، وأنا أقول: أودُّ أن نجلس معًا قليلًا من الوقت.
فسألتني متظاهرة بالدهشة: لِمَ؟
فقلت: رغبة في مزيد من التعارف.
– ليس اليوم.
وأرادت أن تودعني فقلت: ولكنَّك لم تُحددي يومًا آخر؟
فأبطأتْ قليلًا كأنَّما غُلبت على أمرها وقالت: ليكن يوم الاثنين، العاشرة صباحًا، بحديقة الحيوان.
ومع أنَّ استجابتها لبَّت صميم أمنية القلب إلا أنها في الوقت نفسه ثبَّتتْ سوء ظني بحريتها، وغلَّبت في نفسي جانب المُغامرة على حُسن النية، والتقينا أمام باب الحديقة، ورُحنا نتمشى في أرجائها ونتكلم، أعلنتُ عن إعجابي بها، ثم جرَّنا الحديث إلى تفاصيل حياتينا، ومُستقبلنا، وكانت عواطفي المكبوتة تُعذبني، وكنتُ شديد الثقة في أنها ستستجيب لها كما استجابت إلى الميعاد. وحاولتُ لدى أول فرصة لخلو المكان أن أُقبِّلها، وتجنَّبتني، ونظرت إليَّ، والظاهر أنَّها قرأت في عيني معاني لم ترتح لها فتساءلت في استياء: ماذا بك؟
فأشرت إلى خميلة وقلت: لنجلس هناك.
فقالت بحزم تغيَّرت به صورتها: يُخيِّل إليَّ أنك أسأت بي الظن.
فقلت وموجة باردة تجتاحني: كلا.
– أو أنني أحسنتُ بك الظن خطأً.
فقلتُ بحرارة مصدرها الندم: لا هذا ولا ذاك من فضلك!
أجهضت العاصفة؛ فجلسنا جلسة بريئة، وواصلنا حديثنا الجاد السعيد، ثم افترقنا على ميعاد جديد، وانجذبتُ إليها بقوة فحتى الزَّواج منها فكرتُ فيه جادًّا وراغبًا. وفي اللقاء الثاني أهدتني قلم أبنوس فأثَّرت فيَّ الهدية تأثيرًا نافذًا وساحرًا، وقالت لي: ترددتُ طويلًا، فكرت في الانقطاع عنك.
فسألتها بجزع: لِمَ؟
– أخاف من خيبة الأمل.
فضغطتُ على يدها بحنو وقلت: أنتِ تُدركين تمامًا أنني أحبك.
وفي المقابلات التالية تبلور الاتفاق بيننا، وفكرنا في الخطوات العملية التي تسبق عادةً إعلان الخطوبة، وجاءت معها مرَّة شقيقتها الكبرى المُتزوجة، وتركز الحديث في الوظيفة، وهل تبقى بها أم تتفرغ للبيت، وقلت ببراءة: لا أتصور كيف يستقيم أمر البيت إذا تمسكت بالوظيفة.
فتساءلت شقيقتها: وعلامَ كان الجهد والتعب؟
فقلت: إن مُرتبي يُغنينا عن توظيفها، ويوفر جهدها للبيت.
فقالت الأخت ضاحكة: رغم ثقافتك فأنت دقة قديمة.
وقالت ثريا: لم يسألني أحد عن رأيي بعد؟
فقلت: ولكنك تشتركين معنا بصمتك.
– كلا!
– إذن فما رأيك يا عزيزتي؟
– سأعمل فيما أهَّلت نفسي له حتى النهاية.
ثم كان آخر لقاء قبل الميعاد الذي حددنا لإشراك الأسرتين، وجدتها على غير عادتها قلقة، مشتتة الفكر، فقلت: يوجد شيء يشغلك.
فقالت ببساطة: نعم!
– ما هو؟
– لا يجوز تأجيله أكثر من ذلك.
وبسرعة استطردت: وأعترف أنِّي أخطأتُ في تأجيله حتى هذه اللحظة.
– شيء خطير؟
– يجب أن نتكاشف!
– ألم نتكاشف بما فيه الكفاية؟
– كلا .. الحبُّ يطالبنا بالصدق.
فقلت بقلق: طبعًا.
فقالت وهي تغمض عينيها: يجب أن أصارحك.
اعترفت بأنَّ شخصًا ما «خدعها» وهي في سن البراءة! وفي أثناء الاعتراف القصير اغرورقت عيناها، لم أفهم شيئًا بادئ الأمر، ثم أدركتُ كل شيء ببلاهة كأنه دعابة، ثم اجتاحني شعور قدري بأنَّ كل شيء محتمل، وأنني لا شيء، ثمَّ هبطتُ في هاوية من الخمود والفتور والاستسلام المشلول، كأنَّها حُفرة في قلب الشتاء رُدمت بطبقات من الرَّماد. وجعلتْ ترنو إليَّ من خلال رموشها المبتلة ثم همست بيأس: ألم أقل لك؟
فتساءلت ببلاهة: هه؟
– أنت لا تحبني.
– أنا! .. لا تقولي ذلك.
– لن تغفر لي.
فسألتها جاذبًا نفسي من تيار أفكارها: مَن هو؟
– لا يهم.
فسألتُ مُصِرًّا: من هو؟
– وغد من الأوغاد!
– ولكن من هو؟
– لا تعذبني.
وتناولتْ حقيبتها وهي تقول: أستودعك الله.
فقلت بآليَّة: لا تذهبي.
فنهضتْ وهي تقول: أعطيتني الجواب بلا كلام.
– ولكني لم أتكلم.
– إني أرفض ما دون الثقة الكاملة.
فقلتُ وأنا أجد ارتياحًا في الأعماق لنهوضها: تلزمني دقائق للتفكير.
فقالت وهي تمضي في كبرياء: أستودعك الله.
بدت لي المشكلة عقدة غير قابلة للحل. تكشف حبي عن ولع عنيف ليس إلا، وكأن حبي القديم لصفاء قد استنفد طاقتي للحب الحقيقي. وكانت تلك الهفوة مما لا يُغتفر على أيَّامنا. كُنا نُحارب طبقات كثيفة من الماضي العتيق كُلَّما تلاشتْ طبقة برزت تحتها طبقة راسخة تتطلب المُعَاناة والعناء لقهرها، كان علينا أن نقطع خمسة قرون وستة في ربع قرن. حزنت وخاب أملي ولكنِّي لم أشك لحظة في أنَّ ثريا قد خرجت من حياتي إلى الأبد، وامتنعتْ عن الحضور إلى الوزارة لزيارة عمها فلم تقع عيني عليها حتى كان المعرض الزراعي الصناعي الذي أقيم قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية عام ١٩٣٩. كنتُ أمضي وقتًا في لونابارك الملحقة بالمعرض، ومعي صديق صباي عيد منصور، فمرَّت بنا ثريا بصحبة شقيقتها الكبرى وأبنائها، لم ترني ولكنِّي رأيتها، ولما رآها صديقي مال على أذني هامسًا: انظر إلى تلك الفتاة!
فسألته: ما لها؟
– من حي السكاكيني وجارة لخالتي.
وضحك ضحكة خبيثة، ورسم بيده حركة وقحة أدركتُ منها أنه الوغد المعتدي، فقلتُ بامتعاض لم يدرك مداه: أنت وغد!
فضحك باستهتار كعادته وقال: ورغم ذلك سمعتُ أنَّها مخطوبة وستتزوج في هذا العام!
ومرَّت أعوام كثيرة لم أرَ فيها ثريا، ولم أسمع عنها حتى ذهبتُ لزيارة الأستاذ سالم جبر عقب النكسة، فوجدت ثريا ضمن آخرين مجتمعين به في مكتبه، كنت في تلك الأيام ألتمس مجامع الزملاء والأصدقاء كما يلتمس المحترق مادة — غطاء أو ترابًا أو ماء — ليطفئ به النَّار المشتعلة في ملابسه. وجدت عند الأستاذ سالم جبر نفرًا من الزملاء مثل جاد أبو العلا، ورضا حمادة، وعزمي شاكر، وكامل رمزي، وسيدة وقورًا فوق الخمسين عرفت فيها ثريا رأفت، ألقيت تحية عامة وجلست فلم تلمس يدي يدها ولكني شعرت بأنها تذكَّرتني كما تذكَّرتها، وكان الحديث يدور حول النكسة، تحديد أبعادها، تحليل أسبابها، واستقراء الغيب عنها، ومضى الزملاء في الانصراف ثم قامت ثريا فصافحت الأستاذ سالم وهي تقول: موعدنا يوم الاثنين.
فأكَّد لها الموعد، وهو يوصلها حتى الباب، ثم رجع إلى مكتبه وهو يقول: جاءت تدعوني إلى مناقشة وطنيَّة بنقابة المُعلمين.
فسألته مُتجاهلًا: من هي؟
– الدكتورة ثريا رأفت، مُفتشة كبيرة بالتربية.
ثم استطرد بعد قليل: زوجها من رجال العلم النَّادرين المكرسين حياتهم للبحث، أمَّا هي فمن وجوه نهضتنا النِّسائية؛ امرأة تستحقُّ أن يفخر بها جنسها، وأن يفخر بها الوطن.
ثم قال: يندُر أن تجد امرأة في قوَّة شخصيتها وعِلمها وخُلقها.
تذكَّرت عيد منصور، تذكَّرت ضعفي وانهزامي، تذكرت نفرًا من أصدقاء الصبا مثل خليل زكي، وسيد شعير، تذكرت أحمد قدري قريبي الذي لم أره منذ دهور، تذكرتُ عشرات وعشرات ممن تلاطمت معهم في مجرى الحياة، برزت وجوههم وسط هالة من غبار مُتعفن كما تبرز الحشرات في أعقاب انهيار بيت آيل للسقوط.