جَاد أبو العُلا
هو موجود وهو غير موجود.
ويرجع تاريخ معرفتي الشخصية به إلى عام ١٩٦٠. تلفن لي في مكتبي طالبًا مقابلتي؛ فرحَّبتُ به مُتأثرًا بما يتمتع به اسمه من شُهرة في دنيا الأدب، كان قد أصدر خمس روايات وربما أكثر، وكانت الإعلانات عن رواياته تلفتُ النَّظر لكبر المساحة التي تشغلها في الصفحات الأولى من الصحف، ويتبع نشر الرواية سلسلة من المقالات النَّقْدية في الصحف والمجلات الأدبية، مُغرقة في التقدير والثناء، وقد تُرجمت رواياته جميعًا إلى الإنجليزية والفرنسية، كما تُرجم ما كُتب عنها في الخارج إلى صحفنا، وهي تشيد بأعماله إشادة لا تتحقق إلا لكاتب ذي خطر وشأن. وتبعًا لذلك قرأتُ له أكثر من رواية، ولكنني لم أستطع أن أتم واحدة، ولم أجد ضرورة لقراءة ما قرأت منها بعناية أو اهتمام، وأدهشني أنني لم أجد عنده موهبة تُذكر، ولا على المستوى المحلي، وجميع أعماله تحولتْ إلى مُسلسلات إذاعية وأفلام سينمائية، فلم تُحقق أي نجاح، ولكنها كانتْ تشقُّ طريقها بكبرياء كأنها دُرر.
ولما جاء لزيارتي، وجدته لطيفًا مُهَذَّبًا، لبق الحديث، سرعان ما تشعر بأنه صاحب قديم، وألا مكان للكلفة بينك وبينه، صارحني بأنه يود أن يتخذني صديقًا ودعاني إلى صالونه الأدبي ببيته الجميل في الدقي، ومن يومها وأنا أتردد على صالونه من حين لآخر؛ فأجتمع به منفردًا أو ضمن مجموعة من الزملاء، ولعلَّ عبده البسيوني كان آخر من انضمَّ إلينا بعد عامين أو أكثر من مقابلته التي لا تُنسى معي، ولم يتوانَ عن عرض تاريخه عليَّ منذ أول لقاء، أشار إلى صورة كبيرة مموه إطارها بالذهب وقال: كان أبي رحمه الله من تُجار التحف بخان الخليلي.
وضحك عاليًا وقال: لو سارت الأمور في مجراها الطبيعي لسجلت تاجرًا فحسب ونجوت من انقسام الشخصية!
فسألته عمَّا يعني بانقسام الشخصية فقال: شعرت منذ عهد مبكر بالموهبة؛ فألححت على أبي حتى وافق على إرسالي في بعثة خصوصية — عقب حصولي على الثانوية العامة — إلى فرنسا.
وهزَّ رأسه وهو يبتسم إليَّ ثم قال: لم أكن أومن بالدراسة النِّظامية، ولا كانت هدفي؛ فالتحقت بمعهد لتعليم الفرنسية، ثم اتجهت بكل قواي نحو منابع الفن الحقيقية في المتاحف والمسارح وصالات الاستماع والكتب.
وأسهب في وصف تلك المنابع وتجربته التذوقية معها.
– ولكنِّي اضطررتُ إلى قطع دراستي بعد مرور ثلاثة أعوام؛ لوفاة والدي فعدت لإدارة معرضه بصفتي أكبر إخوتي وأرشدهم.
وحكى لي كيف انقسم — وما زال — بين التجارة وبين الأدب، وكيف استطاع أن يشق طريقه العسير، ويُحقق موهبته باستغلال كل دقيقة من وقت فراغه القليل. وترك حديثه — والأحاديث التالية على مر الأعوام — انطباعًا في نفسي لا يمكن أن يوصف بالثقة، كان كثير المرح عاديَّ الذكاء أقرب إلى السطحية ذا طلاء ثقافي بلا أعماق، ومن هذا ومن قراءاتي السابقة لبعض رواياته ملتُ إلى تصديق ما يُقال عنه في مجالس الفكر؛ مثل صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، ومجلس الأستاذ سالم جبر وغيرهما. قالوا إنه أنفق أعوامه الثلاثة في فرنسا في مجالي اللهو والعبث باسم اكتساب التجارب الحيَّة ومعرفة الإنسان. وشهدوا له بالمهارة في تجارته، مما عاد عليه بثروة طائلة، تزداد مع الأيام ضخامة. وهو في نظر الجميع مُحبٌّ للفن ورُبَّما للشهرة أكثر، ولكن بلا موهبة يُعتد بها؛ مما دفع به إلى طريق مليء بالمتاعب، فقد صمَّم على أن يكون أديبًا، وأن يُكمِّل ما ينقصه من موهبة بماله، وكان يكتب تجاربه، ثم يعرضها على المقربين من الأدباء والنُّقاد، ويُجري تعديلات جوهرية مستوحاة من إرشاداتهم، بل يقبل أن يكتب له بعضهم فصولًا كاملة، ثم يدفع بالعمل إلى أهل الثقة منهم في اللغة لتهذيب الأسلوب وتصحيحه، غامرًا كل صاحب فضل بالهدايا والنقود تبعًا للظروف والأحوال. ويطبع الرواية على حسابه طبعة أنيقة فتخرج من المطبعة — على حد قول بعضهم — كالعروس، ومِن ثَم يوجه عنايته إلى بعض النقاد فيملأ نقدها أنهار الصفحات الأدبيَّة، ويُنفق أضعاف ذلك على ترجمتها حتى فرض نفسه على الحياة الأدبية. وبنفس الأسلوب شق سبيله إلى الإذاعة والتلفزيون والسينما، دون اهتمام بربح مليم واحد، بل ويُضيف إلى ذلك من ماله إذا لزم الأمر. كان يحتقر بيئة التجار وهي مصدر جاهه وثرائه وهو فيها كوكب محترم، ويغرس نفسه غرسًا شيطانيًّا في بيئة الفن، وهي تأباه وهو فيها غريب مُحتقَر. وقد سألت مرة الدكتور زهير كامل وكان الحديث يدور حول جاد أبو العلا: أي لذة حقيقية يجنيها من جهده الضائع، وهو أول من يعلم بزيفه؟
فأجابني الرجل: أنت مُخطئ، لعله انتهى بتصديق نفسه.
– أشك في ذلك.
– ولعله بات يعتقدُ أنَّ التجربة التي يقترحها أساسًا لعمله هي كل شيء، أما الشكل .. أما الأسلوب .. أمَّا الصناعة فأمور ثانوية لا وزن لها يقوم بها عبيد مأجورون!
فقال الأستاذ رضا حمادة مصدِّقًا: لا نهاية ولا حدَّ للغرور البشري.
فعاد زُهير كامل يقول: الزَّيف في الحياة مُنتشر كالماء والهواء، وهو السر الذي يجعل من باطن الإنسان حقيقة نادرة، قد تخفى عن بصيرته في الوقت الذي تتجلَّى فيه لأعين الجميع.
وضحك زهير كامل، ثم قال بنبرة تسليم يائسة: بِتُّ أعتقد أنَّ الناس أوغادٌ لا أخلاقَ لهم، وأنَّه من الخير لهم أن يَعترفوا بذلك، وأن يُقيموا حياتَهم المشتركة على دِعامةٍ من ذلك الاعتراف، وعلى ذلك تصبح المشكلة الأخلاقية الجديدة هي: كيف نَكفل الصالحَ العام والسعادةَ البشرية في مجتمع من الأوغاد والسفلة؟!
وظهر عبده البسيوني في صالون جاد أبو العلا مُتأخرًا، عام ١٩٦٨ أو بعد ذلك. وقلتُ لنفسي ساعة رؤيته — ولم أكن رأيته منذ لقائنا الرهيب بمكتبي — ها هو جاد أبو العلا يظفر بصيد ثمين حقًّا! وتصافحنا بحرارة كالأيَّام الخالية على عهد الدراسة، وكأن الخطيئة لم تكن. وكبحت رغبة شديدة كادت تدفعني إلى سؤاله عن زوجه وهل رجعت إليه، ومن ناحيته لم يشر بكلمة إلى ذلك. وقال لي: القافلة تسير والصعاب تذلَّل، وابني بلال في السنة النهائية بكلية طب القاهرة، وهو شاب نابغة، وسيكون له شأن، وأُخته لا تقل نباهة عنه، وهي في كلية الصيدلة، وعمَّا قريب سأستقبل عهدًا من الاستقرار المالي والنفسي.
فهنَّأته بذلك وتمنيتُ له أصدق التمنيات، وقلت له: الظاهر أنَّك عرفت الأستاذ جاد أبو العلا حديثًا؟
فقال لي همسًا: منذ عامين، ولكني لم أتردد على هذا الصالون إلا مرات معدودات لم يتصادف وجودك بها.
ثم وهو يتبسم: إنَّ أغلب مسلسلاته الإذاعية والتلفزيونية بقلمي!
وضحكنا معًا ثم عاد يقول: وحتى الآن لم أوفَّق إلى بيع مسلسلة باسمي!
ولمَّا فاز الأستاذ جاد أبو العلا بجائزة الدولة التشجيعية زارني الأستاذ عجلان ثابت، ومضى يَضْحك ساخرًا وهو يقول: ألا يتَّقون الله؟!
وتحادثنا طويلًا حتى جاء ذِكر عبده البسيوني؛ فقال عجلان: لعلَّك لا تعرف أنَّ زوجه كانت خليلة للأستاذ جاد أبو العلا؟
فجرى في باطني تيَّار مضطرب لم يدرِ به عجلان، ولا بأسبابه الحقيقية .. وقلت: اتَّقِ الله بدورك.
– صدقني فأنا أخصائي في هذا النوع من الأخبار.
فسكتُّ فعاد يقول: وعبده البسيوني يعرف ذلك أيضًا، وقد ضبطهما في فيلا بالهرم، واكتفى بقطع العلاقة وتسلم حرمه، ثم أعقب ذلك صداقة وطيدة بين الزَّوج والعشيق السابق.
قلتُ باذلًا جهدًا غير قليل لتمالك أعصابي: متى كان ذلك؟
– منذ سنوات لعلها ثلاث أو أربع أو خمس!
– ليكن.
– يا له من رجل زائف!
– عبده البسيوني؟!
– هذا حمار بائس، إني أعني صاحب الجائزة الكبيرة.
– نعم.
– ومن عجب أنَّ أبطال رواياته مثل للصدق والكرامة والفضيلة!
– نعم.
فهتف ضاحكًا: علينا اللعنة جميعًا حتى يوم الدين.