الجزء الأول: فاوست
صورة مسرحية شعرية
الشخصيات
-
فاوست: طبيبٌ في الثمانين.
-
إبليس: كبيرُ الشياطين.
-
مرجريت «جريتشن»: فتاةٌ في ربيع العمر.
-
فالنتين: أخو مرجريت.
-
روح الأرض: عِفريتٌ صغير.
-
أرواح وعفاريت.
المشهد الأول
(غرفة مكتب فاوست – طبيب – المكتب مليءٌ بالكتب
والرفوف، وفي الركن معملٌ فيه قواريرُ ومواقد – وفي منتصف الغرفة
مدفأة موقدة.)
فاوست
:
ليس في الطبِّ شفاء!
ليس في السِّحر دواء!
هذه الكُتْبُ وتلك الأرفف العَرْجاء خاويةُ
المعارف
قد قضيتُ العمرَ مهمومًا تُعذِّبني الوساوس
والمخاوف
كلما رُمْتُ يقينًا زاد شكِّي وعذابي!
كلما زِدتُ اقترابًا زاد بُعدي واغترابي!
ليس هذا الزادُ ما ترضاه نفسٌ تَنشُد الحقَّ
المبينا
تُنشد الأحلام صدقًا … تَنشُد الصدقَ
يقينًا
هل بذا يَقْضي ابنُ رُشدٍ؟
هل بذا قال ابنُ سينا؟
قد ورثتُ الحِكمة العُليا من العرَبِ
القُدامى
لكنِ العصرُ يُجافيني وشكِّي يتَسامى!
عالَمي خَلْطٌ غريبٌ مِن فِكَرْ!
أو خليطٌ من صراعاتِ البشر!
ربما في السِّحْر مِفتاحٌ لألغازِ
الوجودْ،
تَذْرعُ الكونَ سَحاباتٌ تُجلِّيها
الرُّعودْ!
مَن أنا؟ أو ما أنا؟ ربما في الأرض
سرِّي!
ربما في الأرض أسرارُ القيود!
سوف أدعو روحَ تلك الأرضِ حتى تجتلي سرَّ
الخلود!
كِلْمةُ السرِّ هي الأرضُ حياتي ومماتي!
إيهِ يا روحُ انطِقي! إيهِ يا روحَ
الرُّفاتِ!
لستُ أرجو غيرَ برقٍ أو سَنا
أيُّهذي الأرضُ قولي مَن أنا!
(تظهر روح الأرض.)
(أو يسمع صوتها فقط.)
روح الأرض
:
أيُّها الإنسانُ ما غَرَّكْ؟
أنت مِن طيني خُلِقتَ وفيه سرُّكْ!
أنت جسمٌ للفَناء
أنت مِن نَسْج الهباء!
فاوست
:
بل أنا الإنسانُ عُلِّمْتُ البيان
وأنا أقتبسُ العلمَ من الرحمن!
روح الأرض
:
إنكم أكثرُ شيءٍ جَدلًا!
فاوست
:
لِم لا تُبدين عِلمَ النابهين العالمين؟!
روح الأرض
:
ليس علمُ الإنسِ يَهدي لليقين!
فاوست
:
قد قرأتُ الغابِرين
عِلْم إخوانِ الصفاء
علم خلَّان الوفاء
روح الأرض
:
باطني يزخَرُ بالعلماء!
كلُّهم أمسى ترابًا
كلُّهم بات سرابًا!
هذه الأرواح عندي
كلُّ مَن راح وآبا!
فاوست
:
هل غدا العِلمُ يَبابًا؟
روح الأرض
:
بل أحابيلُ خِداعْ
بعضُ قِرطاسٍ قصير الباعْ
أو مِدادٌ في يراعْ!
فاوست
:
أنت يا روحَ الثَّرى حلمٌ سقيمٌ
فاغْرُبي!
كيف لا تُفْضي دروبُ العلم للحقِّ
اليقين؟
إنَّ إيماني بدُنيانا الخفيَّة
يبتغي زادًا سوى العلمِ القديم
إنَّ في الجنبَين أهواءً يُنافي بعضُها
بعضًا
وتُدمي القلبَ مني في الصَّميم
يا تُرى ضاعت جهودُ العلم إذ
أنهَكْتُ روحي فيه أستَفْتي الهداية!
إنَّ روحي الخالدة
أصبحَت مثلَ السفين
تستبدُّ الريحُ طغيانًا بها!
عدتُ وحدي باردَ الأطرافِ أسعى للمُحال!
إن عقلي جذوةٌ من بعضِ نار
كيف لا ألقى على النار هدًى؟
اغرُبي يا روحَ تلك الأرضِ إني
سوف أمضي طالبًا ناري القديمة!
سوف أخطو في حِمى النارِ المقيمَة!
(تختفي روح الأرض ويضع أشياءَ في النار
فتتوهَّج)
فَلْأَزِدْ جمرَ اللهيبْ
وشُعاعي المُستجيبْ!
أنتِ يا نارُ أجيبي
أنتِ لي خيرُ طبيبِ!
(يتصاعد دُخان – يفتح كتابًا ويقرأ)
من كتاب السِّحر أدعو الأقوياءْ
وبتعويذةِ فنٍّ أستشيرُ الحُكماءْ!
أيها الجِنُّ أجيبوا!
سِحرُكم سِحرٌ عجيبُ!
(يظهر إبليس في صورة شابٍّ وسيم.)
إبليس
:
أنا ربُّ النارِ جئْتْ.
فاوست
:
شَكْلُكَ الإنسيُّ خَدَّاعٌ مُريب!
إبليس
:
أنا مِن نارٍ خُلِقْتْ
وتَمَرَّدْتُ وثُرْتْ
ولرَبِّي قد عَصَيْتْ!
فاوست
:
هل طَلَبْتُكْ؟
إبليس
:
أنت ناديتَ فلبَّيْت!
فاوست
:
أنا لا أحتاجُ شيطانًا جَحُودْ!
أنتَ رمزٌ للكُنُودْ!
إنني أبغي اليقينْ
وبِجِنِّي أستعينْ!
إبليس
:
وأنا النُّكرانُ أهدي لليقينْ!
فاوست
:
أنت إبليسُ فلا تَسْخَرْ وطِرْ!
إبليس
:
لن ترى النورَ سوى بعضِ شَرَرْ!
فاوست
:
بل هو النورُ الأمينْ.
إبليس
:
بل هو الجَمْرُ الدَّفينْ
بين جَنْبَيْكَ يُدَمْدِمْ
وبِشَهْواتٍ يُغَمْغِمْ!
فاوست
:
لستُ أبغي غيرَ عِلْمٍ ثابتٍ مرصودْ!
يكشفُ المستورَ من سرِّ الوجودْ.
إبليس
:
عُد إلى أرضِ الخلودْ!
عُد إلى رَحِمِ الجدودْ!
عُد إلى المرأةِ يا أحمقَ مولودْ!
فاوست
:
أنا أحمق؟
إبليس
:
أنت لا تعرفُ ما تَبْغي!
فاوست
:
أنتَ تَعرفه إذن؟
إبليس
(يضحك)
:
هل يرى الإنسانُ معنى الماءِ إلا إنْ
عَطِشْ؟
هل يرى الإنسانُ معنى النَّار إلا إنْ
بَرَدْ؟
فاوست
:
حُجَّةُ الشيطانِ لا تُغْويني!
إبليس
:
لا تكنْ كالسَّادرينَ الجُهلاءْ!
قد نَبَذْتَ العيشَ فانتابتْكَ أنواءُ
الضلالَة!
وحَرَمْتَ النفسَ من لذَّاتِها
فوقعتَ اليوم في بحرِ الجَهالَة!
فاوست
:
كيف تُفضي لذةُ الحسِّ إلى علمِ اليقينْ؟
إبليس
:
بل هي اللذةُ لا شيءَ سِواها!
اركَبِ اللذةَ يا ابنَ الطينْ!
عُدْ إلى أصلِكَ تعرفْ ما اليقينْ!
فاوست
:
ما بذا قالَ ابن رُشد.
إبليس
:
يا حبيسَ الأقدَمين!
فلتُحرِّرْ نفسَك الدنيا من العلمِ
العقيمْ
عُدْ إلى الأرضِ إلى الطينِ الأمينْ
تلك دُنيا الخِصْبِ والمرأةِ والأمِّ
الرَّءومْ!
فاوست
:
«عدْ إلى الأرضِ؟!» ولكنْ …
لم يَحِنْ بعدُ الأجَلْ!
لم يَحِنْ بعدُ الرحيلْ!
إبليس
:
بل هي الدنيا التي تتجدَّد!
في حنايا الأرض في المرأةِ في حوَّاءَ مَن تُعطي
الحياة!
فاوست
:
سهمُ إبليسَ أخافُه
وأَعافُه!
إبليس
:
إنَّ ربَّ الكونِ أهْدَاها لآدَم!
إنها الدنيا وأمُّ الكونِ والبعثُ المقيم
إنها المبدأُ والغاية
إنها نِعْمَ البداية!
فاوست
:
أنت تَبْغي لي الضلالْ.
إبليس
:
بل أنا أبغي الهِداية!
فاوست
:
كيف تَهْدي ما يُجافي النارَ في طَبْعِك؟
إبليس
:
إنَّ نَاري في الجَوَانِحْ
ولَهيبي في الجَوَارِحْ!
فاوست
:
إنَّني أطفأتُها من زمَن!
إبليس
:
إن لي سحرًا يُعيدُ الفردَ منك للشبابِ؛
اسمعْ:
(فجأة نبرات قاطعة)
دعْني أقطعُ عهدًا
حتى أُنجزَ وعْدًا.
فاوست
:
لا حاجةَ لي بوعودِ الشيطان.
إبليس
:
اسمعْ وعْدي واحكمْ
لن أُلزِمَكَ بشيءٍ، إلا أن تَصْحَبَني!
لن تَخسَرَ شيئًا!
لن أُلزمَكَ بأجْر!
إن الإنسانَ حبيسُ الزمنِ الساربْ
يتقلَّبُ في اللحظاتِ بظلِّ الضوءِ
الغاربْ
ولسوف أُحرِّرُ مَن يَتْبعُني من هذا القيدِ
الظالمْ!
من هذا القيدِ الملعونْ!
فاوست
:
بل أنتَ الملعونْ!
إبليس
:
في نظرِكَ! لكن النُّكرانَ أراني
الخُلْد!
وحَباني مُلكًا لا يفْنَى!
سأدلُّكَ هذا اليومَ على مُلكٍ لا يَفْنى
مُلْكِ العلمِ الحقِّ؛ مُلْكِ المَعْنى!
فاوست
:
تَهْدِيني أنتَ إلى المعنَى؟
إبليس
:
شَرْطي الأولُ أن تَهجُرَ تلك الشذَراتِ
العجفاءْ
وعلومَ الإنسِ وسِحْرَ السحرة
كلَّ الأوراقِ البيضاءْ، والصفراءْ!
حاولْ أن تنهَجَ نهجًا آخَرْ
أن تتعلمَ من خِبرةِ رُوح جمَعَتْ خِبْراتِ
الأرواحْ
أبحِرْ في ظلِّي في بحرِ الظُّلمَة
قمْ بالرحلةِ في أعماقِ الأرضْ
ذقْ طعمَ اللَّذةِ، ذقْ طعمَ الأفراحْ!
اطرَحْ أثقالَ الماضي وتحرَّرْ من أفكارِ
القدماءْ!
فاوست
:
أتحرَّرُ من حِكمةِ حُكماءِ الإنسانْ؟
إبليس
:
بل مِن ضِيقِ الذِّهنِ المحدودْ!
ارحلْ داخلَ أغوارِ الأرضْ!
فاوست
:
لا أغوارِ النفسْ
إبليس
:
النفسُ من الأرضِ انشقَّتْ ونمَتْ!
فاوست
:
أتقولُ: «النفسُ من الطِّين»؟
إبليس
:
لا، بل من جوهرْ،
مِثْلي!
لكنَّ النفسَ لديْكَ تَشكَّلُ من طينِكْ
صورتُها تَخضعُ للطِّين؛
وإذن لن تُدركَ سرَّ النفس
إلا إن نزلَتْ نفسُك للطِّين
وامتزجَتْ به!
فاوست
:
كيف إذن أنزلُ للطين؟
إبليس
:
اتبَعْني فأَدُلَّكْ؛ وفقًا لشروطِ العقد!
فاوست
:
ماذا تعنِي بالعَقد؟
إبليس
:
هو شرطٌ أشترطُهْ
لكَ أن تقبلَ أو ترفضْ.
(يلمحُ بوادرَ رِضًا على وجه فاوست، فيقول
بإغراء)
إنْ أرضيتُك ورسَوتُ بمَركبِك الحائرْ
أصبحتَ حَليفي!
فاوست
:
عبثًا! لن تُفلحَ فيما أخفَقَ فيه العلم!
إبليس
:
هذا شرطُ رِهاني!
فاوست
:
لن تُفلِحْ!
إبليس
:
وإذا أفلَحتُ فهل تتبَعُني دونَ نقاشْ؟
فاوست
:
ما مقياسُ فلاحِكْ؟
إبليس
:
سأُعيدُك شابًّا،
وسأَسْقي قلبَك عِشقَ الأرضِ الحيَّة!
حتى تنتصرَ القوَّة،
وتعيشَ الزَّهْوَة!
كي تنسى عندَ دخولِ الطين،
أنكَ مِن طين!
لن تذكُرَ ضَعْفَك أو ترجوَ غُفرانَ
الخَالقْ!
وستشعرُ أنكَ مثلي لهَبٌ ناطِقْ!
هذا ما راهنتُ اللهَ عليهْ،
وأراهنُك اليومَ عليهْ!
فاوست
:
يتحدَّاني إبليس، وأنا أقبَلُ ما يتَحدَّى به!
إبليس
:
أنتَ إذن تقبلْ!
فاوست
:
هل تتحدَّى قلبَ الإنسانْ؟
إبليس
:
عِدْني أن تُصبحَ مِلْكَ يميني إن
أفلَحْتْ.
(يتردد ثم يهمس) أن تَعبُدَني!
فاوست
:
إنْ مرَّتْ بي لحظَة
أشعرُ فيها أنِّي كاملْ
أو أنسى فيها ذِكرَ الزمنِ وأرجو أنْ
يتوقَّفْ
فسأُصبحُ مِلْكَ يمينِك!
إبليس
:
وسأُفلِحُ في هذا أيضًا!
فاوست
:
وإذا لم تُفلِحْ؟
إبليس
:
بل إنِّي أفلَحتُ كثيرًا ونَجاحي مشهودٌ
لَهْ!
يَعرفُه القاصي والدَّاني،
بل يَتبعُني من أهل الأرضِ الآلافْ؛
(يضحك)
آلافُ الآلافْ!
فاوست
:
لكنْ مِن غيرِ العُلماءْ!
إبليس
:
والآن سيَلحقُ بي عالِمْ.
فاوست
:
أحقِّقُ الكمالْ، وأقهرُ الزمنْ؟!
إبليس
:
هذا هو التحدِّي!
ما إنْ أمضي حتى تسمعَ لحنًا شرقيًّا
فتعودَ إلى سنِّ الرغبة … وترى المرأة
وتغوصَ برُوحِكَ فيها
وبكلِّ كيانِك!
فتُعانقَ أغصانَ الدُّنيا
وجذورَك في التُّربة!
فتُنحِّي الضعفَ البشري
تتحررُ من هَبَّاتِ مشاعرِ أهل الأرضْ!
من قبضةِ زمنِ الإنسانِ فتَخلُدْ!
فاوست
:
ذلكَ لا يتَحقَّقُ أبدًا!
إبليس
:
لكنكَ وافقتَ على شرطِ العَقد؟!
فاوست
:
وأنا أتحدَّاك!
إبليس
:
وقِّعْ هذي الورَقة!
(يوقِّع فاوست)
(جانبًا) ما أكثَر مَن قالوا ذلك ثم
هَوَوْا!
لكنِّي اليومَ أضمُّ إلى جيشي سَندَ
العلماءْ
ولَسوف تُجلجِلُ ضِحْكاتي في كلِّ سَماءْ
وتُعربِدُ في كلِّ الأرجاءْ
حتى يسمَعَها ربُّ الكون!
(يختفي كما ظهر فجأة.)
(تُعزَف موسيقى شرقية.)
(إظلام)
المشهد الثاني
(مشهد الجان يرقصون ويُمارسون أساليبَ
السحرة.)
إبليس
:
يا أتباعي يا أبناءَ قبيلي،
قد جئتُ إليكم بالصيدِ الأكبَرْ؛
أوقعتُ العالِمَ في هُوَّةِ سِحري،
ولسوف بمنطقِه يتعثَّرْ!
كان يُسائلُ نفسَه،
ويُغالِبُ يأسَه،
بالعِلمِ وبالحِكمةِ يَكفُر!
أدْلَى حبلَ السحرِ الأسودْ
فتسلَّقتُهْ، حتى المِنبَرْ!
(يدخل عِفريتان مُلثَّمان.)
إبليس
(يُغيِّر النبرة والإيقاع)
:
هل فعلتُم ما أمرتُ اليومَ به؟
أنتَ يا عفريتُ يا أزرَقْ، تكلَّمْ!
هل ملَكْتَ الحبَّ في قلبِ الفتاةِ؟ قُل
نعَمْ!
أنت يا عفريتُ يا أحمَرْ!
هل وضعتَ اليومَ إغواءَكَ في قلبِ
الفتاة؟
ذلك الفيروزَ والياقوتَ والماسَ
الثَّمينْ؟
قُل نعَم!
أولُ الشرِّ مَتاعْ
وبريقٌ وخِداعْ
أنت يا عِفريتُ يا أصفر!
هل أتتْ مَعك الفتاة؟
قل نَعم!
أينَ تلكَ المَرْجَريتْ؟!
اسمُ الدَّلالِ لها جِريتْشِنْ!
أينَ مَن سلبَتْ خواطرَ صاحبي؟
(تدخُل مارجريت.)
نراكُمُو من حيثُ لا ترَوْنَنا يا أيها
البشَرْ!
جريتشن
:
مولايَ أينَ أنت؟
إبليس
:
لا تَقْلقِي صَغيرتِي! يا ليتَها كانت
تَراني!
حوَّلْتُه شابًّا وسيمًا
قد قهَرتُ العُمرَ بالسِّحرِ القديمْ
والآنَ يأتي ذلك الشابُّ الوسيمْ!
(يخرج إبليس ويدخل فاوست.)
فاوست
:
يا جِرِيتْشِنْ يا حياتي
أنتِ بَعْثي مِن مماتي
أنتِ أرضي وسمائي
وبقائي وفَنائي.
جريتشن
:
مولايَ معذرةً فإني لا أزال غَريرة!
فاوست
:
أنتِ مخلوقي الأثيرْ!
جريتشن
:
إني من الريفِ الفَقيرْ!
فاوست
:
يهواكِ ذو القلبِ الكَسير!
جريتشن
:
بل أنا البنتُ الكَسيرَة.
فاوست
:
اقْبَلي حبِّي فنَغْدو أسعدَ الأحبابْ.
جريتشن
:
إنه بعضُ سَرابْ!
فاوست
:
هاكِ عهدًا مِن يدي
للهناءِ الأبَدِي!
(يُلبِسها عِقدًا من اللؤلؤ.)
جريتشن
:
إنَّني مولايَ أَحْلُمْ.
فاوست
:
بل هو الواقعُ حقًّا؛ انظُري،
إن هذا القصرَ قصرُك
وأنا مِلْكُ يمينِك
جريتشن
:
بل أنا مِلْكُ يمينِك!
فاوست
:
قد بدَأْتُ الرحلةَ الكُبرى إذنْ!
(يحتضنُها.)
إنني أُبْحرُ في ذاتي غريبًا
إنني أسمَعُ أصداءَ الهَدير
هذه الرغبةُ لم أعرِفْ لها شَطًّا قريبًا
بل صراخٌ وزَئيرْ!
(يبتعد عنها مذعورًا.)
جريتشن
:
ويحَ نَفْسي ما بنفسي!
فاوست
:
هل نَبا مولايَ عنِّي؟
بل أتيتُ الآن محمومَ السعير!
(يندفع إليها.)
جريتشن
:
حُبُّنا حقٌّ إذن؟
فاوست
:
في بحارِ الحبِّ أبحرتُ بلا زادٍ سِوى
قلبي
ورجَوتُ المثلَ الأعلى على شطآنِ حِسِّي
ما الذي أبحَثُ عنه يا تُرى؟
أنا ذاتٌ لستُ أدري مَن أنا!
جريتشن
:
سيدي؟
فاوست
:
فِتْنتِي هيَّا بنا!
(يخرجان متعانقَين.)
(إظلام)
المشهد الثالث
(جريتشن وحدها وفي يدِها المغزل.)
جريتشن
(تُغنِّي)
:
الحُزنُ يِثقِلُ قَلْبي
والجرحُ يُدْمِي فُؤادي
قلْ كيفَ يذهَبُ حُبِّي
بِراحَتي ورُقادي
•••
يموتُ كلُّ الوجودْ
يَفيضُ نُورُ النهارْ
ويُصبِحُ العيشُ مرًّا
في لوعةِ الإنتِظارْ
•••
صَفْوي تكدَّرَ صبرًا
وحَيْرتي ليسَ تذهَبْ
هذا الفُصامُ بذِهْني
يَشُقُّ قلبي المعذَّبْ
•••
الحزنُ يُثقلُ قلبي
والجرحُ يُدْمي فؤادي
قلْ كيف يَذهبُ حُبِّي
براحتي ورُقادي
•••
نظَرتُ مِن شُبَّاكي
حتى أرى مَقْدِمَهْ
خرَجتُ حَيْرى لِأسأَلْ
أين اختَفى مَبْسِمُهْ
•••
الزَّهْوُ في خُطوتِهِ
والعزُّ في قامَتِهِ
والعشقُ في بَسمتِهِ
والسِّحرُ في نظرتِهِ
•••
وصوتُهُ في انسيابٍ
كالجدولِ الرَّقْراقِ
يُلْقي يدَيه بكفِّي
كالضمِّ أو كالعِناقِ
•••
الحزنُ يُثقلُ قلبي
والجرحُ يُدْمي فؤادي
قلْ كيف يذهبُ حُبِّي
براحتي ورُقادي
•••
النارُ تُلهِبُ جِسمي
برغبةٍ واشتهاءِ
متى أعانقُ حبِّي
بلا مَدًى وانتهاءِ
•••
متى أُقبِّلُ حبِّي
بكلِّ شوقِ الإماءِ
يُغْشى عليَّ فأفْنَى
في الحبِّ كلَّ الفناءِ
(تخرج.)
(إظلام)
المشهد الرابع
فاوست
(وحده)
:
هل لدى الجنَّةِ أفراحٌ تُوازي الذَّوبَ في
أحضانِها؟
وأنا بالقربِ منها أجرَعُ الدِّفءَ من الحبِّ
النَّضيرْ
راعَ قلبي بؤسُها! ماذا أنا؟
إنني بعضُ شريدٍ هاربٍ لا يعرفُ الغايَة!
فاسقٌ لا يَستقر!
مثلُ شلالٍ من الماءِ تَهاوى فوقَ صخرَة
من صخورٍ لصخورٍ يتهاوى لِلقَرارْ
بل لقاعٍ لا قَرارْ
في انطلاقٍ طامعٍ محمومْ!
فإذا لاحَ لِعَيني كُوخُها
ذلك القابعُ عندَ السَّفحِ مأمونًا يُناجي
ربَّهُ
في المَراعي الخُضْرِ في ظلِّ البراءَة
جرَفَتْه قُوَّتي بل حطَّمَتْه
كيف أُفْنيها معي؟ إنها بعضُ ضحيَّة!
لكنِ القلبُ بجنبَيَّ يُنادي بل ويَزأَرْ
لم أعدْ أقوى على الصبرِ فيا إبليس خذْ
بيدي!
(يدخل إبليس.)
هذه الخشيةُ لا أدري مَداها
أي أقدارٍ تُراها في انتظاري؟
فلْتُدمِّرْ تلكم القوةُ أقْداري وأقدارَ
الفَتاة!
إبليس
:
أنتَ تَغْلي من جديدٍ قمْ لها!
اذهَبِ الآنَ إليها ثمَّ واسِي قلبَها!
عقلُك المأفونُ لا يَقْوى على الرُّؤيَة
لم يَحِنْ يومُ النُّشور
قمْ إليها إنه يومُ الكِفاح؛ يومُ إحرازِ
السُّرور
فيك أرواحُ الشياطينِ فقُمْ؛ أصبحتَ
منَّا،
مِن قَبيلي!
حُرِّمَ اليأسُ على الشيطانِ وَسْطَ
الناس!
ليس إبليسُ بمُبْلِسْ،
رغم ما يَدْعوه لليأسِ من النَّاس!
(يخرجان.)
(إظلام)
المشهد الخامس
جريتشن
(وحدها)
:
كمْ غَضِبْنا من سقوطِ الخاطئاتْ
وتَسارَعْنا نُدينُ البائساتْ!
كم تُرى أجهَدتُ عقلي في انتقاءِ
الكلماتْ
شاتماتٍ حانِقاتٍ لاذعاتْ!
كانت الزلَّةُ تبدو لي سَوادًا ما به غيرُ
سوادْ
وأنا أنشدُ لونًا حالكًا مثلَ المِدادْ
كنتُ أستغفرُ ربي وأُناجيه لهنَّ
ثم جاءتْني الخطايا مِثلَهُنَّ!
إنني يا ربِّ لم أُخطِئْ سِوى
في دَفْقةِ الحبِّ الأصيلَة
أيُّ شرٍّ ذاك ما يَزْهو بأثوابِ
الفضيلَة!
(تخرج.)
(إظلام)
المشهد السادس
إبليس
:
هبَطَ الليلُ على الأحداقِ فانبثَّتْ شياطينُ
الظلامْ
وسَرَتْ في البلدةِ الوَسْنَى أحاديثٌ
تَناقَلَها الوُشاة
وأخو الحمقاءِ مهمومٌ لما حَلَّ بأُختِه
فأتى يُرْغي ويُزْبِدْ
يَنشُدُ الثأرَ لعِرْضِه
واهمًا … يَسعى لِحَتفِه.
(يدخل الجنديُّ فالنتين، وهو أخو مارجريت ثائرًا
فائرًا.)
فالنتين
:
أين فاوِسْتُ اللَّعين؟
إبليس
:
ليتَه كان يَراني!
بعضُ أفرادِ القَبيلْ، وسوَسوا لَه
إنْ أتى فاوِسْتُ فانقضَّ عليه
فزتُ بالنصرِ المُبين!
فالنتين
:
أينَ يا فاوِسْتُ أنتَ؟
(تُسمع أصواتٌ في الداخل.)
إبليس
:
إنني أسمعُ صوتًا فلْأُراقبْ ما يكون!
فالنتين
:
أيها الفأرُ الحقيرُ، جاءَ حتْفُك!
فاوست
(داخلًا)
:
مرحبًا بالزائرِ الأكْرَمْ!
فالنتين
:
قِفْ أجِبْ عمَّا فعَلْت!
فاوست
:
هذه الثورةُ لا معنى لها!
فالنتين
:
شرَفي ثُلِمْ
ولَسوف أغسِلُه بدَمْ!
فاوست
:
ذا كلامُ الجاهلينَ السُّفهاء
فالنتين
:
بل كلامُ العاقلينَ الشرفاء
فاوست
:
ماذا تريدُ إذَن؟
فالنتين
:
لطَّختَ سُمعةَ أُسرتي
وجعَلتَ أنفي في الرَّغَامْ
وأنا أريدُ الانتقامْ.
فاوست
:
في الغدِ المأمولِ سوف تكونُ أَحْكَمْ
وغدًا ستَسمعُ ثم تَعْلمْ!
إني قصدْتُ الحُبَّ أنبلَ خافقٍ
في الكونِ كي أزدادَ عِلمًا
ما مَقْصدي إلا اغترافُ العلمِ من نَبْع
الحياة!
فالنتين
:
مِن نبعِ أختي؟
فاوست
:
مِن هَوى المرأةِ أمِّ الكون!
فالنتين
:
إنها قد حَمَلَتْ منك سِفاحًا!
أنجبَت طِفلًا حَرامًا!
فاوست
:
تُنبِتُ الأرضُ غَرامًا
والهوى يَغْدو نَباتًا!
فالنتين
:
عجبًا تُقِرُّ بإثمِك الدَّامي؟!
خُذْ هذه الضربةَ من حدِّ حُسامي!
فاوست
(يتراجع)
:
مهلًا … تمهَّلْ واستَمِعْ!
(يهجم بسيفه على فاوست فينهض إبليسُ للدفاع
عنه.)
إبليس
:
لا تخشَ شيئًا؛ إنني بجانبِكْ.
فاوست
:
أنا لا أريدُ قِتالَهُ.
إبليس
:
وقِتالُهُ فَرْضٌ علَيكْ.
(يتبارزان فيَحْمي إبليسُ فاوست من كلِّ
ضربة.)
فالنتين
:
لم يَنْجُ مني فارسٌ من قبلُ!
قلْ إنه الشيطانُ في صَفِّك لا شَك!
فاوست
:
قلتُ كَفى!
(يطعنه فاوست وإبليس فيسقط ثم
ينهض.)
فالنتين
:
قتلتَني! أنا لا أُصدقُ كيف أفناني طَبيبْ!
(يتحامل على نفسه ويخرج.)
فاوست
:
قد قتَلْتَه!
إبليس
:
بل قتَلْناه معًا؛ غِرٌّ صَفيقْ!
فاوست
:
ذنبٌ مُضاعَفْ!
إبليس
:
الآنَ أنتَ نزَعتَ روحًا مِن جسَدْ
الآن أنكرتَ الوجودَ لتعرفَ المعنى
قلْ إنَّما الإنكارُ أوَّلُ خُطوةٍ نحوَ
الحقيقة!
فاوست
:
أصبحتُ مِثلَك جاحدًا!
إبليس
:
بل عالمًا.
فاوست
:
إنني خُنتُ جِريتْشِن.
إبليس
:
مَن يُنكرُ العُهودْ
سيعرفُ الصُّمودْ.
فاوست
:
لكنَّه جُحودْ!
إني أغوصُ اليومَ في جُرْفٍ عميقْ!
إبليس
:
لا بل تُصارعُ موجَهُ الطامي إلى شطِّ الخلودْ.
فاوست
:
في الجحيمْ؟
إبليس
:
في الوجود!
فاوست
:
دَعْني إذن! دَعْني لقد أذنَبْت!
وقتلتُ نفسًا طاهرَة
أزهقتُ روحًا بالأمانِ عامرَة!
(يخرج فاوست.)
إبليس
(وحده)
:
هذه لحظةُ توبةٍ، ذاك إنذارٌ خطيرْ!
ربما أسرعَ للبنتِ فألْفَاها تُناجي
ربَّها
ربما يذكرُ عهدَه، ربما حقَّقَ وعدَهْ!
الطامَّةُ الكبرى! سأخسَرْ!
لا بدَّ أن أتداركَ الموقِفْ!
(يُفكر ويتأمَّل)
أنا أعلم، لكنْ لا يدري ذاكَ الأحمَق
أن جريتشن قتلَتْ ذاك الطفلَ غرقًا!
حكَموا بالإعدامِ علَيها
ورَمَوْها في السجن!
وتشتَّتَ عقلُ جريتشن! جُنَّت!
لن أترُكَه يذهبُ للسِّجنِ وحيدًا،
سأُساعدُه حتى يَلْقاها
وسأَمنعُه إنْ حاولَ أن يُنقِذَها،
لا بدَّ له أن يَعرفَ أيضًا
أنَّ له ضِلْعًا في قتلِ الأُم!
إذ كنتُ دسَستُ إليه شَرابًا يُعطيه
إليها
حتى تشربَهُ تلكَ الأمُّ القاسيةُ
البَلْهاء!
فقَضى ذاكَ السمُّ عليها!
لا بدَّ له أن يعرفَ أنَّ مخارجَه
سُدَّتْ!
قد قَتلَ وأنكرَ ونكَثْ
والنصرُ حَليفي، لن ألبَث!
(يخرج.)
(إظلام)
المشهد السابع
(خارج الزنزانة في السجن، فاوست يحمل حلقة
مفاتيح.)
فاوست
:
عادَتِ الرَّعشَة!
عادتِ الرِّعْدةُ في أوصالي!
كم من الأعوام فاتَ اليومَ لكنْ ما أتاني
مثلُ هذا الحزنِ للإنسان!
ما اكتوى قلبي ببُؤسِ البُؤساء
إنها في قَعرِ جُبٍّ باردٍ خلفَ جِدارِ
ذنبُها وَهْمُ الهوى في قلبِها
الفَوَّارِ
كيف أخشى أن أرى وجهَ جريتشن؟
موتُها حتمٌ إذا لم أستَطِعْ إنقاذَها!
(يُدير المفتاح في القفل ويفتح الباب فيسمع صوت
جريتشن تُغني.)
جريتشن
(تُغني بصوتِ طفلها القتيل)
:
من قتَلَتْني غرَقًا
أمِّي الفتاةُ العاهرَة!
من لاكَ لَحْمي في فمِهْ
أبي، بنابٍ ظاهرَة!
وعندها جاءَتْ شقيقتي الصغيرَة
فجمَّعَتْ عِظاميَ المُبَعْثَرَة
في قاعِ جُحرٍ زَمْهريرْ
ثم استَحَلْتُ طائرًا يطيرْ
وها أنا حلَّقتُ بل أطيرْ.
(يفتح الباب ويدخل.)
فاوست
:
لا تَعرفُ أنِّي عاشقُها
لا تعرفُ أنِّي سوف أُخلِّصُها!
جريتشن
(تُخفي وجهها خوفًا)
:
قد أقبَلُوا قد أقبَلوا وحانَ وقتُ المشهدِ
المريرْ!
فاوست
(بصوتٍ خفيض)
:
لا تَصْرُخي لا تَصْرُخي
لقد أتيتُ كي أُخلِّصَكْ!
جريتشن
:
إن كنتَ من بَني البشَرْ
أرجوكَ أن ترحمَني!
فاوست
:
تَكلَّمِي همسًا لِكَيلا تُوقظي الحُرَّاسْ!
(يتناول فاوست سلاسلها لفتح
أقفالها.)
جريتشن
(راكعة)
:
يا أيُّها الجلادُ مَن أعطاكَ تلكَ
السُّلطَة؟
من قال إنك تستطيعُ القتلَ في هذا
الهَزيعْ؟
أرجوكَ فارحَمْ مَن تموتُ غدًا وتَمضي
الصبحُ موعدُنا إذن
والصبحُ موعدٌ قريبْ!
(تنهض واقفةً.)
ما زلتُ في شَرْخِ الشَّباب
بل إنني في مَطْلَعِهْ
والحكمُ بالإعدامِ قاسٍ ومَريرْ
قد كنتُ ذاتَ مَلاحَةٍ جاءَتْ بمحبوبي
الذي
ولَّى وضاعَ للأبَدْ!
ومزَّقوا إكليلَ عُرْسي، بَعْثَروا الزهورَ في
الفَضاءْ!
أرجوكَ فُكَّ إسارَك القاسي، ترفَّقْ بي
وأَشْفِقْ!
ارحمْ شبابي! أيُّ ذنبٍ قد جنيت؟
دعني لأحيا؛ كيفَ ضاعَ تَوَسُّلي عبثًا!
لا أعرفُ الوجهَ الذي أشهَدُهُ!
فاوست
:
لا أقدِرُ أن أتحمَّلَ أكثرَ من ذلك!
جريتشن
:
أنا مِلْكُ يديْكَ الآنَ! أنا جاهزةٌ
للموت!
لكن أرجوكَ، دَعني أُرضِعُ طِفلي
قبلَ رحيلي،
كنتُ أُهَدْهِدُه بالليل!
لكنْ أخَذوه منِّي؛ حتى ينفطرَ فؤادي
قالوا قُتل الطفلُ، واتَّهَموني فيه!
ما أغربَ ما صارَ إليه الحال!
أشرارٌ هم أشرارْ!
فاوست
(يُلْقي بنفسِه على قدَمَيها)
:
بل إنني الحبيبُ يا جريتشن!
وراكعٌ لديكِ تائبٌ ونادمْ!
وجئتُ كي أُخلِّصَكْ!
هيا بنا من المكانِ المُفزِعْ!
جريتشن
(تركع إلى جواره)
:
فلنركَعْ ولنَرْجُ الرحمةَ من قِدِّيسينا
انظرْ تحتَ السُّلَّم، تحت البابْ
إن جهنمَ تَغلي وتَفورْ
أفلا تسمعُ صوتَ أزيرِ النِّقمَة؟
فاوست
(صائحًا)
:
جريتشن جريتشن!
جريتشن
(تفيق)
:
كان ذا صوتَ حبيبي!
(تهبُّ واقفةً فتسقط سلاسلها.)
سمعتُه ينادي! مَن الذي يحبسُني؟
أصبحتُ حرَّة! سأرتمي بين يدَيه!
قد كان واقفًا، نادى جريتشن!
عرَفتُ صوتَه! لقد علا على الجحيم
على الصُّراخِ والعويلِ والشياطينِ
البذيئَة!
قد كان صوتَ ذلك المحبِّ والحبيب!
فاوست
:
إني أنا الحبيب!
جريتشن
:
إنه أنتَ إذنْ!
هاتِها لي من جديد!
(تُعانقه)
لا شكَّ أنه هُوَهْ! لا شكَّ أنه هُوهْ!
لقد تبخَّرَ العذابُ وانتهى!
لقد تساقطَتْ سَلاسلي!
(يحاول رفعها إلى باب الخروج.)
فاوست
:
هيَّا معي، هيَّا معي!
جريتشن
:
امكثْ معي؛ فأحبُّ أن أبقى معك!
(تلاطفه.)
فاوست
:
لا نملكُ أن نتأخرَ هيَّا!
جريتشن
:
عجبًا كيفَ نسيتَ فنونَ التَّقبيل؟!
كم كنتَ تذوبُ بأحضاني!
وأنا بينَ ذراعَيْكَ الآنَ!
هيَّا، سأُذكِّرُ محبوبي!
(تُعانقه)
(تُغيِّر النبرة) شفَتاكَ صامتتان
والحبُّ قد بَرَدَا!
مَن يا تُرى فَرَّقنا؟
فاوست
:
هيَّا تعالَيْ، سوف نمضي من هنا!
هيَّا اتْبَعيني الآنَ أرجوكِ أقولْ!
جريتشن
(تستدير إليه وتُواجهه)
:
هل أنتَ حقًّا أنتَ؟
فاوست
:
هذا أنا يا فِتْنتي!
جريتشن
:
حطَّمتَ أغلالي وسوف تُعيدُني للحبِّ لكنْ
…
لستَ تدري مَن أنا!
فاوست
:
هيَّا بنا أرجوكِ هيَّا!
ضوءُ النَّهارِ يكادُ يَقهرُ حُلْكةَ الليلِ
البَهيمْ!
جريتشن
:
ماتتْ أمِّي. قد كنتُ دسَسْتُ السمَّ
لها!
أغرقتُ رَضيعي عند ولادتِه
كان هديةَ ربِّ الكونِ إلينا،
لكَ أيضًا!
هل أنتَ إذن مَن أنت؟
أوَليسَ المشهدُ حُلمًا من أحلامِ الليل!
هذي يدُكَ ملطخةً بالدَّمْ!
امسَحْ عنها تلكَ القَطراتِ الرَّطْبَة!
آهٍ يا ربِّي ماذا تفعلْ؟
اغمِدْ ذاك السيفَ إذن أرجوك،
اغمِدْه أقول!
فاوست
:
انسَيْ ما حدثَ الآن!
ذلك يَقتُلُني قتلًا!
جريتشن
:
لا! لا بدَّ أن تعيشَ أنتْ!
والآنَ سأحكي لك عن كلِّ قُبوري
ومُهمةُ تنظيمِ الدفنِ عليك، في الغد!
لا أقبلُ تسويفًا، أو تأجيلًا!
أنتَ ستختارُ المدفَنْ!
أفضلُ قبرٍ للوالدةِ بلا شك
ويليها الأخُ فالِنْتِينْ، وأنا بعدَهْ!
لكنْ بالقربِ من الأخِ والأُم!
أمَّا طفلي فعلى ثَدْيي الأيمَنْ
لن يرقدَ شخصٌ آخرُ في قبري!
(تُغيِّر النبرة)
قد كنتُ في يومٍ من الأيامْ
في رقةٍ آوي إلى أحضانِكْ
كانَت مَنابعَ فرحةٍ كُبرى وفَجْرَ غرامْ
والآنَ يبدو أنني
لا أستطيعُ عِناقَكْ
وإخالُ أنكَ لا تُريدُ عِناقي!
لكنَّ عطفَكَ لم يزَلْ وحنانَك!
فاوست
:
إن كنتُ كذلكَ فتعالَيْ نَمضي، هيَّا نَخرُجْ!
جريتشن
:
أخرجُ معكَ إلى أين؟
فاوست
:
للحريَّة!
جريتشن
:
بل سِجْني هو قبري الأبدي!
فاوست
:
البابُ أمامَكِ مفتوحٌ.
جريتشن
:
لكنَّ فراري ميئوسٌ منه؛
فعيونُ الناسِ تُراقبُني في كلِّ مكانْ
وسأستَجْدِي الكُلَّ لأَحْيا
في ألمٍ مِن وَخْزِ ضَميري
لأعودَ على أيدي الشُّرطَة!
فاوست
:
لن أتخلَّى أبدًا عنكِ!
جريتشن
:
أسرِعْ أسرعْ! أنقِذْ طِفلَكْ
سِرْ بحذاءِ الشاطئِ واصعَدْ فوقَ التَّل
عبرَ الجسرِ إلى الغابةِ في الطرفِ
الآخَرْ
وهنالك عندَ السُّور، ستراهُ في
البِرْكَة!
أنقذْه إذن! ستراهُ يُحاولُ أن يسبَحْ!
أنقذْه أقول!
فاوست
:
أرجوكِ كفى! ما هي إلا خطوة
ونكونُ من النَّاجين!
جريتشن
:
اذهبْ للجنبِ الآخَرِ من هذا التَّل!
أُمِّي تَقبعُ فوقَ الصَّخرَة،
والبردُ شديد!
أمِّي هزَّتْ رأسًا مُثقلةً بالأحزان
هي لا تستدعي ابنتَها
أو تُومئ بالرأسِ الحَزْنى المكلومَة!
نامتْ رَدَحًا حتى ما تَقْوى الآنَ على
اليقَظَة!
لن تصحوَ أبدًا؛
غافَلْناها بشرابِ النَّوم!
نامتْ حتى يجمعَك معي فَرْشٌ واحد
ما أجملَ تلكَ اللحظاتِ على فَرْشِكْ!
فاوست
:
إن كنتُ لن أقوى على إقناعِكْ
فسوفَ أحمِلُك!
جريتشن
:
لا تلمَسْني! لِمَ تَحمِلُني؟ أنزِلْني! كلا
كلا!
لن يُرغِمَني أحدٌ أن أخرُجْ!
لا تُحْكِمْ قبضتَك عليَّ،
قد كنتُ على استعدادٍ دومًا لإسارِ
ذراعِكْ!
فاوست
:
الفجرُ قد لاحَ يا حياتي
والنورُ ينسابُ في السَّماءِ
جريتشن
:
آخِرُ يومٍ لي قد أشرَقْ
كنتُ أظنُّ زِفافي اليومْ!
الآنَ قضَيتَ الليلَ بأحضاني
لا تُفْشِ السر!
(تُغيِّر الإيقاع)
مزَّقوا إكليلَ عُرسي
كانَ ما كانَ هَباءْ
نلتقي في قاعِ رَمْسي
دونَ رقصٍ أو غِناءْ!
(تُغيِّر الإيقاع)
لا أسمَعُ صوتَ الجُمهور
لكنَّ الناسَ تُوافي
أعدادٌ لا تُحصَى حقًّا
الطُّرقاتُ امتلأتْ والميدانْ
وتَدُقُّ الأجراسُ طويلًا!
آهٍ من تلكَ الألحانْ!
(تُغير الإيقاع)
إنهم شَدُّوا وَثاقي
أجلَسوني قبلَ إعدامِي هُنَيْهَة!
(تُغير الإيقاع)
إنْ لاحَ نَصْلُ السيفِ في الهواءْ
أو دارَ مثلما يدورُ في الفضاءْ
سيَضربُ الرقابَ كلَّها
ويَصمُتُ الوجودُ عند قبري!
فاوست
:
لِمَ أدفعُ هذا الثمنَ الغاليَ يا ربي!
ولماذا يَمحَقُني حُبِّي؟
(يدخل إبليس.)
إبليس
(من الباب)
:
هيَّا هيَّا، إن تتأخَّرْ ضِعْتْ!
لا بدَّ من السُّرعة؛ فخيولُ الليلِ
سترحَلْ
وضياءُ الصبحِ سيَمحَقُني مَحْقًا!
جريتشن
:
ما هذا الصوتُ القادمُ من تحتِ الأرضِ
هنا
يطلبُني؟!
فاوست
:
بل سوفَ تعيشين!
جريتشن
:
ربِّي! إني أنتظرُ سَماعَ الحُكم من الملأ
الأعلى!
(إلى فاوست) إن لم تأتِ سأرحَلْ،
وسأتركُ للأقدارِ مَصيرَكما!
فاوست
:
سوفَ تعيشين!
جريتشن
:
أيُّها الخلَّاقُ غُفرانَكْ
إنني أذنبتُ فاصفَحْ!
قابِلَ التوبةِ فلتَمْحُ الذنوبْ
إنني أصبحتُ مِن خيرِ عَبيدِكْ!
أيُّهذا الملأُ الأعلى،
اسمَعوني!
انشروا كلَّ جَناحٍ فوقَ ضعفي، وبكم إنِّي
استعَذْت!
إنني الآن أخافُك!
إبليس
:
قُضي عليها!
صوت
(من أعلى المسرح)
:
بل غفرَ اللهُ لها!
فاوست
:
يا شقاءَ الكونِ كلِّه!
ليتني لم أطلبِ العيشَ ولا تِلكَ
المِحَنْ!
أنت يا إبليسُ لا تَدْري الشَّقاءْ
قد خَسِرتَ الرِّهانْ،
فاحترقْ!
(يخرج إبليس في برقٍ ورعد.)
إنَّ عِلمَ اللهِ في قلبِ البشَرْ
في الضميرِ والجَوانِحْ!
جريتشن
:
ضُمَّني قبلَ الوداعْ! قد تَلَقَّى اللهُ رُوحي!
(تموت بين يديه.)
فاوست
:
إنَّني أَجْثو إلى اللهِ القدير
طالبًا عفوَهْ!
أعرفُ الآنَ بأني خاطئٌ
تلكَ أسْمَى معرفَة!
لم يَغِبْ ربِّي عن القلبِ للحظَة
فَهَداني أنْ أتوبْ
خيرَ توبة،
فإليه أَتَضَرَّعْ
وإليه سوفَ أرجعْ!
(سِتار الختام)