الفصل الثالث
بونتيلا يعقد خطبته على المستيقظات في البكور
(ساعة الفجر في القرية. بيوتٌ صغيرة من الخشب. كُتِبَ على أحدها «بريد»
وعلى الآخر «طبيبٌ بيطري» وعلى الثالث «صيدلية». في وسط الميدان عامود تِلِغْراف. بونتيلا
يصطدم
بسيارته «الاستوديو بيكر» بعامود التلِغْراف ويُوبِّخه.)
بونتيلا
:
أفسحوا الطريق في تافاستلاند! أنت أيها العامود! ابتَعِد يا حيوان! لا تقف في طريق
بونتيلا. من أنت؟ هل عندك غابة؟ هل عندك بقَر؟ أرأيتَ؟ إلى الوراء! وإلا كلَّمتُ مُفتِّش
البوليس لِيعتقِلكَ مع الحُمُر حتى تندم! (ينزل من
السيارة) أخيرًا تَزحزَحتَ!
(يتجه إلى أحد البيوت الخشبية ويَطرُق النافذة. إيما المُهرِّبة تُطِل من
النافذة.)
بونتيلا
:
صباح الخير يا سيدتي الكريمة. هل نمتِ نومًا طيبًا؟ لي طلبٌ بسيط عند السيدة
الكريمة. أنا صاحب الأطيان بونتيلا من لامي ووقَعتُ في مشكلةٍ فظيعة؛ فأنا محتاج
لخمرةٍ قانونية لأبقاري المريضة بالحُمَّى القُرمزية. أين يسكن طبيب البهائم في قريتكم؟
إن لم تَدُلِّيني عليه فسوف أَقلِب كُوخكِ الحقيرَ رأسًا على عَقِب.
المُهرِّبة إيما
:
يا إلهي! أنت خارجٌ عن طَورِك تمامًا. بيت الطبيب البيطري تَجدُه هنا. هل قال السيد
إنه محتاجٌ لخمرة؟ أنا عندي خمرةٌ لذيذة، قوية، صَنعتُها بنفسي.
بونتيلا
:
ابتعدي يا امرأة! كيف تَجرُئين على عرض خَمرتِكِ غير القانونية عليَّ؟ إنني لا أشرب
إلا الخمرة المُصرَّح بها بِحسَب القانون، وكل خمرةٍ سواها لا تنزل من حنجرتي. إنني
أُفضِّل الموت على أن يُقال عني: إنني من أولئك الذين لا يحترمون القوانين الفنلندية.
لماذا؟ لأني أفعل كل شيءٍ طبقًا للقانون. وإذا أردتُ يومًا أن أقتل أحدًا، فسأقتله
بحسب القانون وإلَّا فلا.
المُهرِّبة إيما
:
سيدي الكريم! جاءتك الرعشة من خَمرتِكَ القانونية!
(تختفي في كوخها. بونتيلا يجري نحو بيت الطبيب البيطري ويَدُق الجرس،
الطبيب البيطري يطلِّ من الشباك.)
بونتيلا
:
يا طبيب البهائم! يا طبيب البهائم! هل عثَرتُ عليك أخيرًا؟ أنا صاحب الأطيان
بونتيلا من لامي وعندي تسعون بقرةً والتسعون مصابةٌ بالحُمَّى القرمزية، يَلزَمني حالًا
كحولٌّ قانوني.
الطبيب البيطري
:
أعتقد أنكَ أخطأتَ العنوان، والأحسنُ لك أن تَنصرِف.
بونتيلا
:
أيها الطبيب البيطري! لا تُخيِّب أملي. أنتَ لستَ طبيبًا بيطريًّا بحق. وإلا عَرفتَ ما
يُعطيه الناس لبونتيلا في تافاستلاند كلها، عندما تُصاب أبقاره بالحمى القرمزية. أنا
لا أَكذِب. لو أنني قلتُ: إنها مصابة بالسقاوة لكانت كذبةً، ولكنني حين أقول: إنها
مريضةٌ بالحُمَّى القُرمُزية فهذه كلمةُ سرٍّ بين الشُّرَفاء.
الطبيب البيطري
:
وإذا كنت لا أفهم كلمة السر؟
بونتيلا
:
في هذه الحالة ربما قلتُ لك: إن بونتيلا هو أكبر فُتوةٍ في تافاستلاند كلها. هناك
أغنيةٌ شعبية عنه. ثلاثةٌ من أطبَّاء البهائم ذنبهم في رَقَبتِه. هل تفهم الآن يا سيادة
الدكتور؟
الطبيب البيطري
(ضاحكًا)
:
نعم، الآن فهِمتُ. ما دُمتَ قويًّا إلى هذا الحد، فسوف تَحصُل بالطبع على وَصفتِك، إذا
تأكدت أولًا أنها مُصابةٌ بالحُمَّى القُرمُزية.
بونتيلا
:
يا حضرة الطبيب البيطري! إذا كانت كلها ظَهرَت عليها بقعٌ حمراء وعلى اثنتَين منها
بقعٌ سوداء، أليس هذا هو المرض في أَبشعِ صوره؟ والصُّداع الذي تُقاسِي منه بغير شكٍّ
ويجعلها تَتمرَّغ طول الليل بغير أن تنام ولا تُفكِّر في شيءٍ إلا في ذنوبها!
الطبيب البيطري
:
في هذه الحالة يكون من واجبي أن أُخفِّف عنها الألم.
(يقذف له الوصفة «الروشتة».)
بونتيلا
:
والحساب أَرسِلْه إليَّ على عنواني: بونتيلا في لامي!
(بونتيلا يجري إلى الصيدلية ويدق الجرس بعنف. وبينما هو ينتظر تخرج
المُهرِّبة إيما من بيتها الخشبي الصغير.)
المُهرِّبة إيما
(تُغنِّي وهي تُنظِّف الزجاجات)
:
وعندما نضِج البرقوق،
ظَهرَت في القرية عربةٌ بحصان،
نزل منها شابٌّ جميل
في الصباح، قادمًا من الشَّمال.
(ترجع إلى بيتها الخشبي. عاملة الصيدلية تُطِل من النافذة.)
عاملة الصيدلية
:
لا تُمزِّقْ لنا الجرس!
بونتيلا
:
تمزيق الجرس أفضل من الانتظار! كت كت كت تب تب تب! أنا محتاجٌ خمرةً لتسعين بقَرة،
أنت يا حلوة! يا سمينة!
عاملة الصيدلية
:
أعتقد أنك محتاجٌ لأن أُنادي لك شُرطيًّا!
بونتيلا
:
يا صغيرتي! يا صغيرتي! تُنادِين الشرطة من أجل إنسانٍ مثل بونتيلا من لامي! وماذا
يُفِيدُه جنديٌّ واحد؟ لا بد أن يكونوا اثنَين على الأقل! ولكن لِمَ الشرطة؟ أنا أُحب
رجال الشرطة. إن أقدامهم أَكبرُ من أقدام الناس، ولهم خمسُ أصابعَ في كل قدم؛ ذلك لأنهم
يُحافظون على النظام، وأنا أُحب النظام! (يُعطيها
الوَصْفة) هنا يا حمامتي القانون والنظام!
(عاملة الصيدلية تُحضِر الكحول. وبينما بونتيلا ينتظر تظهر المُهرِّبة
إيما مرةً أخرى قادمةً من بيتها الخشبي.)
المُهرِّبة إيما
(تُغنِّي)
:
وعندما كنا نجمع البرقوق،
نام على العُشْب،
ذقنه شقراء، وعلى ظهره
رأى هذا وذاك.
(تعود إلى بيتها الخشبي الصغير. عاملة الصيدلية تُحضر
الكونياك.)
عاملة الصيدلية
(ضاحكةً)
:
وهذه زجاجةٌ كبيرة. عسى أن تجد في اليوم التالي «رنجة» تكفي أبقارك! (تعطيه الزجاجة.)
بونتيلا
:
جلوك جلوك جلوك! أنت أيتها الموسيقى الفنلندية. يا أجملَ موسيقى في الدنيا! يا
إلهي! كِدتُ أنسى! معي الآن الخمرة ولكن ليست معي امرأة! وأنت لا عندكِ خمرٌ ولا معكِ
رجل! أيتها العاملة الجميلة أريد أن أَخطُبكِ!
عاملة الصيدلية
:
أشكرك جدًّا يا سيد بونتيلا من لامي، ولكني لا أَقبَل الخِطبة إلا على حسَب القانون،
بخاتمٍ وجرعةِ نبيذ.
بونتيلا
:
موافق، ما دمتِ ستُوافقِين على الخُطوبة، ولكن لا بد من الخُطوبة، لقد آن الأوان. فأيَّةُ
حياة هذه التي عشتها حتى الآن؟ أريد أن تُكلِّميني عن نفسك. قولي لي كيف تعيشين. لا بد
أن أعرف هذا، ما دمتُ سأَخطُبك!
عاملة الصيدلية
:
أنا؟ هذه هي حياتي: تعلَّمتُ أربع سنوات، والآن يدفع لي الصيدلي أقلَّ مما يدفع
للطاهية. نصف مرتبي أُرسِله إلى أُمي التي تعيش في تافاستهوس؛ فقلبها ضعيف، وأنا
أيضًا، ورثت مرض القلب عنها. من كل ليلتين أَسهَر ليلة. الصيدلية تغار مني؛ لأن
الصيدلي يُعاكِسني. الطبيب خطه رديء، وقد حدث مرةً أن صرفتُ وصفةً بدَل أخرى. والأدوية
تحرق فساتيني والغسيل غالٍ. ليس لي صديق؛ فضابط الشرطة ومدير الجمعية التعاونية
وصاحب المكتبة كلهم متزوجون. أعتقد أن حياتي محزنة.
بونتيلا
:
أرأيتِ؟ لا تُفرِّطي إذًا في بونتيلا، خذي، اشربي جرعة!
عاملة الصيدلية
:
ولكن أين الخاتم؟ إنهم يقولون: جرعة نبيذ وخاتم!
بونتيلا
:
أليس عندَكِ خواتمُ ستائر؟
عاملة الصيدلية
:
أتريد واحدًا أو أكثر؟
بونتيلا
:
أكثر من واحد. واحدٌ لا يكفي. بونتيلا يُحب أن يكون لدَيه الكثير من كل شيء. من
البنات أيضًا. البنت الواحدة عنده لا تنفع، فهِمتِ؟
(بينما تبحث عاملة الصيدلية عن عامودٍ من أعمدة الستائر تظهر المُهرِّبة
إيما مرةً أخرى قادمةً من بيتها الخشبي.)
المُهرِّبة إيما
(تُغنِّي)
:
وعندما طبخنا البرقوق،
راح يمزح معنا،
ويمد إبهامه ضاحكًا،
في هذا الوعاء وذاك.
(عاملة الصيدلية تُعطي بونتيلا الخواتم التي نَزعَتها من أعمدة
الستائر.)
بونتيلا
(وهو يضع خاتمًا في إصبعها)
:
تعالَي إلى بونتيلا يوم الأحد بعد ثمانية أيام. سيحتفل بخطوبةٍ كبيرة. (يواصل سيره. راعية البقر ليزو تُقابله حاملةً قسط
لبن) قفي يا حمامتي! لا بد أن تكوني لي! إلى أين في هذه الساعة
المُبكِّرة؟
راعية البقر
:
أَحلِب البقَر!
بونتيلا
:
ماذا؟ وتجلسين وليس بين فخذَيك سوى وعاء اللبن؟ ألا تريدين زوجًا؟ يا لها من حياة!
كلِّميني عن حياتك، فأنتِ تُعجبينني!
راعية البقر
:
هذه هي حياتي: أصحو من النوم كُلَّ يوم في الثالثة والنصف صباحًا، أَحمِل الرَّوثَ من
الحظيرة وأُنظِّف البقَر بالفُرشاة، ثم أَحلِب وأغسل قسط اللبن بالصودا، وهذا يُلهِب
يدي.
بعد ذلك أُنظِّف الحظيرة مرةً أخرى من الرَّوث، ثم أشرب قهوتي العَطِنة؛ فهي قهوةٌ رخيصة،
ثم
آكل قطعة خبزٍ بالزُّبدة وأنام قليلًا. بعد الظهر أُسوِّي بعض البطاطس وأَضَع عليها قليلًا
من الصلصة. أمَّا اللحم فلا أراه أبدًا، ولكن ربما أهدتني مُدبِّرة البيت بيضةً أو وجَدتُ
أنا بالصدفة واحدة، ثم أعود إلى تنظيف الحظيرة والبقر والحليب وغَسْل أوعية اللبن. لا
بد أن أحلب كل يوم مائة وعشرين لترًا من اللبن. بالليل آكُل الخبز باللبن، الذي
يعطونني منه لِترَين في اليوم، أما إذا احتجتُ لشيءٍ أطبخه، فلا بد أن أشتريه من
المزرعة. كل خمسةِ أسابيعَ آخُذ يوم الأحد إجازة، في المساء أذهب أحيانًا للرقص، وإذا
ساء حظي رُزِقْتُ بطفل. عندي فستانان، وعندي كذلك درَّاجة.
بونتيلا
:
وأنا عندي مزرعةٌ وطاحونةٌ بالبخار وورشةُ نجارةٍ لتقطيع الخشب وليس عندي امرأة! ما
رأيك يا حمامتي؟ ها هو الخاتم، واشربي جرعةً من الزجاجة، وكل شيءٍ على ما يُرام وعلى
حسَب القانون، تعالَي إلى بونتيلا يوم الأحد بعد ثمانية أيام! اتفقنا؟!
راعية البقر
:
اتفقنا!
(بونتيلا يواصل سيره.)
بونتيلا
:
لِنُواصِل السير إلى نهاية شارع القرية! أود أن أعرف من الذي استيقظ في هذه الساعة.
إنهم جميعًا لا يُقاوَمون، حين يتسلَّلون من الفراش وعيونهم لا تزال تلمع بالخطيئة،
والعالم لا يزال شابًّا.
(يقف أمام مبنى التليفون المركزي. وهناك يجد أمامه عاملةَ التليفون
ساندرا.)
بونتيلا
:
صباح الخير يا حرس! أنتِ أَعلمُ امرأة، أنتِ التي تَعرِفِين كُلَّ الأَسرارِ عن طريق
التليفون.
صباح الخير يا حلوة!
عاملة التليفون
:
صباح الخير يا سيد بونتيلا. ماذا جرى لك في هذه الساعة؟
بونتيلا
:
أبحث عن عروسة.
عاملة التليفون
:
هل أنت الذي ظللتُ نصف الليل أَبحثُ عنه بالتليفون؟
بونتيلا
:
نعم، أنتِ تعرفين كل شيء. وأنتِ التي ظللتِ نصفَ الليلِ ساهرةً وحدك! أريد أن أعرف
أية حياةٍ هذه التي تَحيَيْنها؟!
عاملة التليفون
:
أستطيع أن أصفها لك. هذه هي حياتي؛ فأنا أحصل على خمسين ماركَا، وفي سبيل ذلك
يحرم عليَّ أن أغادر مبنى التليفون منذ ثلاثين عامًا. خلف المبنى قطعةُ أرضٍ صغيرة
مزروعة بالبطاطس أَحصُل منها على طعامي، ولكن عليَّ أن أشترى سمك الرنجة من جيبي،
والقهوة يرتفع سعرها باستمرار. أنا أعرف كل ما يحدث في القرية وفي خارجها أيضًا.
سوف تُدهَش إذا قلتُ لك كلَّ ما أعرف؛ لهذا السبب لم يتزوجني أحد. وأنا سكرتيرة نادي
العمال، وأبي كان صانع أحذية. توصيلُ المكالَمات، طَبخُ البطاطس، ومعرفةُ كل الأخبار،
تلك هي حياتي.
بونتيلا
:
لقد آن الأوان لكي تُغيِّري حياتك، وبسرعةٍ أرسلي الآن برقية إلى المكتب الرئيسي
وقولي لهم: إنك ستتزوَّجِين بونتيلا من لامي. ها هو الخاتم، وها هو الكونياك، كل شيءٍ
بحَسَب القانون، ويوم الأحد بعد ثمانية أيامٍ تأتين إلى بونتيلا!
عاملة التليفون
(ضاحكة)
:
سأكون هناك. أعرف أنكَ ستَحتفِل بخِطبة ابنتك.
بونتيلا
(للمُهرِّبة إيما)
:
وأنت قد سمِعتِ أنني أَخطُب هنا بالجملة. أرجوك يا سيدتي الكريمة ألا تتأخري.
المُهرِّبة إيما وعاملة التليفون
(تغنيان)
:
ولما أكلنا البرقوق المهموك،
كان قد ذهب واختفى،
ولكن، صدقونا،
لن ننسى الشابَّ الجميل أبدًا.
بونتيلا
:
والآن أُواصل سفري فألُفُّ حول البِرْكة وأَخترِق الغابة حتى أصل إلى موقف الأنفار …
كوت كوت كوت تب تب تب! وأنتن يا بنات تافاستلاند! يا من ظلَلتُن تَستيقِظن في البكور،
سنواتٍ طويلةً بغير فائدة، حتى جاء بونتيلا وعوضَكُن خيرًا! إليَّ جميعًا، إليَّ! يا
من
تُشعِلن الأفران في الفجر، ويا من تُرسلن الدخان فوق الأسطح، تعالَين حُفاة الأقدام؛
فالعُشبُ الطري سيعرف خُطاكُن وبونتيلا سيسمعها!