الفصل الثامن
حكايات فنلندية
(طريق زراعي. الوقت مساءً. النساء الأربعة على طريق العودة.)
إيما المُهرِّبة
:
إيما المُهرِّبة: من المستحيل أن يعرف الإنسان في أية حال سيلقاهم، فإذا أفرطوا في
الشرب ضحكوا عليكَ وقرصوكَ لا تدري من أين حتى لتجدُ عناءً في أن تَمنعَهم من أن يسحبوكَ
وراء الشجر، ولكنهم بعد خمسِ دقائقَ يزحف شيءٌ على أكبادهم ويكون من حظِّكَ إذا لم يُنادوا
الشرطة. لا بُد أن في حذائي مسمارًا.
عاملة التليفون
:
النعل أيضًا انخلع.
راعية البقر
:
إنه لم يُخْلَق ليتحمل خمسَ ساعاتٍ على الطريق الزراعي.
إيما المُهرِّبة
:
لقد ذاب من المشي. كان يجب أن يتحمل سنةً أخرى. هاتوا لي طوبة. (يجلسن على الأرض. تدُقُّ المِسمارَ في الحذاء) كما قلُتُ،
الواحدة منا لا تستطيع أن تضمن أسيادها؛ فهم مرة هكذا، ومرة هكذا، والمرة الثالثة
في حالٍ آخر. كانت زوجة مفتش الشرطة السابق تدعوني في منتصف الليل لكي أُدلِّك لها
قدمَيها. وفي كل مرة كان مزاجها يختلف عن المرة السابقة، على حَسَب حالتها مع زوجها.
كان بينه وبين الخادمة شيء. وفي يوم أعطتني «شكولاتة»، فهِمتُ أن زوجها طرد الخادمة،
ولكن يبدو أنه عاد إليها بعد ذلك بقليل؛ ذلك لأنها لم تستطع فجأةً أن تتذكر أنني
دَلَّكتُ قدمَيها عشر مراتٍ في الشهر لا ست، مثل هذه الذاكرةِ الضعيفةِ أصابتها
فجأة.
عاملة الصيدلية
:
وفي بعض الأحيان تكون ذاكرتهم قوية. خذوا مثلًا «بيكا» الأمريكاني الذي كوَّن ثروةً
في أمريكا ثم عاد إلى أهله بعد عشرين سنة. كان أهله فقراء إلى حد أنهم كانوا يشحذون
قشر البطاطس من أمي. وعندما جاء لزيارتهم وضعوا أمامه قطعةَ لحمٍ مُحمَّرةً لكي يعتدل
مزاجه. أكلها وقال: إنه يَذكُر أنه كان قد أقرض الجدة عشرين ماركَا، ثم هزَّ رأسه وهو
يراهم على هذا البؤس حتى إنهم لا يستطيعون أن يُسدِّدوا ديونهم.
عاملة التليفون
:
عندهم القدرة على هذا، وهم يَتمسَّكون به وإلَّا لما صاروا أغنياء. في إحدى ليالي شتاء
سنة ١٩٠٨ طلب أحد الإقطاعيِّين في بلدنا من أحد الأُجَراء عنده أن يقوده على البحيرة
المُتجمِّدة. كانا يعرفان أن في الثلج صدعًا كبيرًا، ولكن لم يكونا يعرفان مكانه، فكان
على الفلاح أن يسير على قدميه اثنَي عشر كيلومترًا أمام الإقطاعي الجالس في عربته.
كان الإقطاعي خائفًا على نفسه، ووعد أن يُعطي للفلاح حصانًا إذا وصلا سالِمَين إلى
الشاطئ، فلما وصلا إلى منتصف البحيرة قال له: إذا نجحت ولم أسقط في الحفرة فلك مني
عِجل. ولما رأى نورًا يلمع من إحدى القرى البعيدة قال له: أَتْعِبْ نفسك إذا كُنتَ
تُريد الساعة. وعلى بعد خمسين مترًا من الشاطئ كان يتكلم عن جوالٍ من البطاطس. ولمَّا
وصلا إلى الشاطئ أعطاه ماركَا وقال له: لقد احتجتَ وقتًا طويلًا. نحن أغبياء جدًّا
لا نفهم ألاعيبهم ونقع دائمًا في حيلهم، وما هو السبب؟ لأنهم يبدون مثلنا تمامًا،
وهذا يخدعنا فيهم، ولو كان مظهرهم مثل الدِّببة أو الثعابين لاحترسنا منهم.
عاملة الصيدلية
:
علينا ألَّا نَمزحَ معهم أو نأخذ شيئًا منهم.
إيما المُهرِّبة
:
لا نأخذ شيئًا منهم؟ هذا جميل جدًّا، ما دام عندهم كل شيء وليس عندنا شيء. لا
تشربي قطرةً من النهر، إذا أَردتِ أن تموتي من العطش!
عاملة الصيدلية
:
أنا عطشانة جدًّا.
راعية البقر
:
أنا أيضًا، كانت هناك في «كاوزالا» فتاةٌ وقع شيءٌ بينها وبين ابن سيدها، وكان
فلاحًا، أنجبت طفلًا، ولكنه أنكر كل شيء أمام المحكمة في هلسنجفورز لكيلا يدفع
النفقة. أجَّرت أُمُّها محاميًا، وضع أمام المحكمة كل خطاباته الغرامية التي أرسلها
إليها عندما كان مجندًا. كانت هذه الخطابات تكفي لكي يُحْكَمَ عليه بخمس سنواتٍ في
السجن عقابًا على شهادة الزور، ولكن عندما بدأ القاضي في قراءة الخطاب الأَوَّل بصوتٍ
مرتفعٍ وبطيء أَسرعَت الفتاة إليه تطلب الخطابات، وبذلك ضحَّت بالنفقة. ويقول الناس:
إن
الدموع كانت تنهمر من عينَيها كالشَّلَّال عندما رأَوها تَخرُج من المحكمة، ثارت أمها،
وضحك
هو، هذا هو الحب.
عاملة التليفون
:
إن سلوكها يدل على الغباء.
إيما المُهرِّبة
:
ولكنه قد يدل في بعض الأحوال على الذكاء. كان هناك شابٌّ من ناحية فيبورج لم يقبل
أن يأخذ منهم شيئًا. كانت سنه ثمانية عشر عامًا، وكان يتعاون مع الحمر؛ ولذلك
اعتقلوه في معسكر في «تامر فورس». لم يكونوا يُقدِّمون لهم شيئًا، وكان يجد نفسه
مُضطرًّا — وهو الشابُّ الصغير — إلى افتراس العُشب لكيلا يموت من الجوع، ذَهبَت أمه
لتراه. كان عليها أن تمشي ثمانين كيلومترًا. كانت تُؤجِّر قطعةً صغيرة من الأرض،
وأعطتها صاحبة الضيعة سمكة ورطلًا من الزبد. سارت على قدمَيها، ومن حينٍ لآخر كان أحد
الفلَّاحِين يتعطف عليها ويأخذها معه في عربته. قالت لأحد هؤلاء الفلاحين: أنا ذاهبة
لأزور ابني «آتي» في معسكر الحمر في «تامر فورس»، وصاحبة الضيعة الطيبة أعطتني سمكةً
ورطلًا من الزبد لأُعطيها له. وعندما كان الفلاح يسمع منها ذلك كان يأمرها بالنزول
من عربته؛ لأن ولدها من الحمر. وعندما كانت تمر على النساء اللائي يغسلن في النهر
كانت تبدأ حكايتها من جديد: أنا ذاهبة إلى «تامر فورس» لأزور ولدي في معسكر الحمر،
وصاحبة الضيعة الطيبة أعطتني سمكةً ورطلًا من الزبد لأعطيها له. وعندما وَصلَت إلى
المعسكر أعادت كلمتها على القائد الذي ضَحِك وسمح لها بالدخول مع أن ذلك كان ممنوعًا.
كان العشب لا يزال ينمو أمام المعسكر، أما وراء الأسلاك الشائكة فلم يكن له أثر ولا
لورقةِ شجرٍ واحدة. لقد التهموها جميعًا. صدقوني، لقد حدث هذا بالفعل. لم تكن قد رأت
«آتي» من سنتَين قضاهما في الحرب الأهلية والاعتقال، وكان قد صار نحيلًا جدًّا. «هذا
أنت يا آتي. انظر! لقد أَحضَرتُ لك سمكةً ورطلًا من الزبد، أَرسلَتها لك صاحبة الضيعة
الكريمة.» سَلَّم «آتي» عليها وسألها عن أخبار الروماتيزم وعن بعض الجيران، ولكنه رفض
أن يأخذ منها السمكة والزبدة ولم ينفع معه التوسُّل والبُكاء فقد غضب وقال: هل شَحذتِها
من صاحبة الضيعة؟ يُمكنكِ أن تأخذِيها معك، لن آخذ شيئًا من هؤلاء الناس! لَفَّت
هداياها من جديد، على الرغم من جوع «آتي»، ودَّعته ورَجعَت تمشي على قدمَيها، أو تركب
عربة إذا وَجدَت من يأخذها معه. في هذه المرة كانت تقول للفلاح: «لقد رفض ولدي «آتي»
الذي حبسوه في المعتقل أن يأخذ مني السمكة والزبدة؛ لأنني شحذتها من صاحبة الضيعة
وهو لا يقبل شيئًا منهم.» الطريق كان طويلًا، والمرأة كانت عجوزًا. كانت تجلس من
حينٍ إلى حينٍ على جانب الطريق وتأكل شيئًا من السمكة ومن الزبدة فقد كانت رائحتهما
قد بدأت تظهر، ولكنها كانت تقول الآن للنساء اللاتي كن يغسلن في النهر: «ابني آتي
الذي حبسوه مع المُعتقَلِين لم يقبل السمكة والزبدة؛ لأنني شَحذتُهما من صاحبة العزبة،
وهو لا يأخذ منهم شيئًا.» كانت تقول هذا لكل من تقابله، وكان هذا يدهش الناس على
طول الطريق الذي كان يبلغ ثمانين كيلومترًا.
راعية البقر
:
هناك بعض الناس مثل ابنها «آتي».
إيما
:
ولكنهم قليلون جدًّا.
(يَنهَضن ويُواصِلن السير في صمت.)